فلما كانت الرفعة من اللّٰه الذي له العلو الذاتي حفظ على كل من أعلى اللّٰه منزلته علوه و من علا بنفسه من الجبارين و المتكبرين قصمه اللّٰه و أخذه و لهذا قال ﴿وَ الْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف:128] أي عاقبة العلو الذي علا به من أراد علوا في الأرض يكون للمتقين أي يعطيهم اللّٰه العلو في المنزلة في الدنيا و الآخرة فأما في الآخرة فأمر لازم لا بد منه لأن وعده صدق و كلامه حق و الدار الآخرة محل تميز المراتب و تعيين مقادير الخلق عند اللّٰه و منزلتهم منه تعالى فلا بد من علو المتقين يوم القيامة و أما في الدنيا فإنه كل من تحقق صدقه في تقواه و زهده فإن نفوس الجبارين و المتكبرين تتوفر دواعيهم إلى تعظيمه لكونهم ما زاحموهم في مراتبهم فأنزلهم ما حصل في نفوسهم من تعظيم المتقين عن علوهم و قصدوا خدمتهم و التبرك بهم و انتقل ذلك العلو الذي ظهروا به إلى هذا المتقي و كان عاقبة العلو للمتقي و الجبار لا يشعر و يلتذ الجبار إذا قيل فيه إنه قد تواضع و نزل إلى هذا المتقي فيتخيل الجبار أن المتقي هو الأسفل و أن الجبار نزل إليه بل علو الجبار انتقل إلى المتقي من حيث لا يشعر و نزل الجبار تحت علو هذا المتقي و لو سئل المتقي عن علوه ما وجد عنده منه شيء فثبت إن العلو في الإنسان إنما هو تحققه بعبوديته و عدم خروجه و اتصافه بما ليس له بحقيقة أ لا ترى حكمة اللّٰه تعالى في قوله ﴿لَمّٰا طَغَى الْمٰاءُ﴾ [الحاقة:11] أي علا و ارتفع و أضاف العلو له و ما أضافه الحق إلى نفسه فلما علا للماء و ارتفع حمل اللّٰه من أراد نجاته من سطوة ارتفاع الماء في أخشاب ضم بعضها إلى بعض حتى كانت سفينة فدخل فيها كل من أراد اللّٰه نجاته من المؤمنين فعلت السفينة بمن فيها على علو الماء و صار الماء تحتها و زال في حق السفينة طغيان الماء فانكسر في نفسه و سبب ذلك إضافة العلو له و إن كان من عند اللّٰه و بأمر اللّٰه و لكن ما أضاف اللّٰه العلو إلا للماء فلو أضاف علو الماء إلى اللّٰه تعالى لحفظ علوه عليه فلم يكن تعلو عليه سفينة و لا يطفو على وجه الماء شيء أبدا فهذا شؤم الدعوى فسقوط العذاب بالمعذب إنما كان سقوطه من ارتفاعه في نفسه لكونه صفة ملكية للاسم اللّٰه المعذب فأعطته هذه النسمة سمة العلو لأنه صفة من له العلو و هو الاسم المعذب فلما رأى الاسم المعذب ما قام في نفس العذاب من العلو بسببه أسقطه على المعذب به فزال عن العلو الذي كان يزهو به حين كان المعذب موصوفا به فلهذا يقال بوجوب العذاب على المعذب و تحقيق ذلك أن الأمر الصحيح أن الملك لا يعذب أحدا إلا حتى يقوم به الغضب على ذلك الذي يريد تعذيبه لأمر صدر منه يستوجب به العذاب فأثر ذلك الأمر في نفس الملك غضبا تأذى به الملك و الملك جليل القدر لا يليق بمكانته لعلو منصبه أن يتعذب بشيء و قد فعل هذا الشخص أمرا أغضب الملك فأنزل الملك العذاب الذي كان يجده الملك في نفسه المعبر عنه بالغضب أو الذي أثمر الغضب في نفس الملك أوجبه بهذا الشخص أي أسقطه عليه فإذا وجب العذاب على هذا الشخص وجد الملك راحته بعذاب هذا الشخص و ليس الأمر كذلك هنا و إنما وجود الراحة بزوال العذاب الذي كان في نفس الملك الذي أورثه فعل هذا الشخص فتعذب الملك به فلما أنزله بهذا الشخص انتقل عنه فوجد الراحة بانتقاله و يسمى في العامة التشفي و هو من الشفاء و الشفاء زوال العلة لا نزول العلة التي كانت في العليل بشخص آخر هذا تحقيق الشفاء و الراحة ثم كونه نزل ذلك الألم بشخص آخر لهذا به لذة فتلك لذة أخرى زائدة على لذة زوال العذاب و العلو هنا حقيقة للاسم الإلهي فلهذا اتصف العذاب بالسقوط و هو الوجوب قال تعالى ﴿أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذٰابِ﴾ [الزمر:19]
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية