﴿فَقٰالَ لَهٰا وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ﴾ [فصلت:11] فجمعهما جمع من يعقل و أثبت لها ما أثبت للحي العالم السميع القادر و قوله تعالى ﴿عَلَيْهِمْ نٰارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾ [البلد:20] فأخبر أنها مسلطة و لا يقبل التسليط إلا من يعقل و أنها محرقة بالطبع فإنه لو لم تحرق بالطبع ما قبلت الإرسال على الكفار إذ لو كان الحرق فيها بغير الطبع لما تصورت منها المخالفة لأن المخالف إنما هو الاحتراق فهو أمر آخر يفتقر وجوده إلى إيجاد موجدة و الحق ما خاطب إلا النار و الإحراق عرض و العرض يفتقر إلى وجود في غير عين النار فإنه إن وجد في النار فإنه لا ينتقل إلى الجسم المسلط عليه النار لأن العرض لا ينتقل إذ لو انتقل لخلا عن المحل و قام بنفسه و العرض لا يقوم بنفسه فمن المحال تحريق الجسم المحرق بالنار فيكون خطاب النار بالإحراق عبثا و قد وقع الخطاب على النار بالتسليط فعلى من وقع فبطل إن يكون الحق يتكلم بالعبث فكيف يخرج هذا الخطاب و على من يقع إذا لم يكن الإحراق للنار بالطبع و هكذا كل جماد و نبات و حيوان خوطب لا بد أن يكون حيا عاقلا قابلا لما يخاطب به من شأنه أن يعقل ما قيل له افعل قبولا ذاتيا تابعا لوجود عينه فهذا قد نبهتك على هذا النوع من الإدراك الذي يتضمنه هذا المنزل و اعلم أن جميع ما يحويه هذا المنزل من العلوم لا يوصل إليها إلا بالتعريف الإلهي بوساطة روحانية الأنبياء لهذا المكاشف و تلك الأرواح لا يعلمها من اللّٰه إلا بوسائط لغموضها و دقتها فمن جملة ما يحويه علم كسر المكسور إلى ما لا نهاية له و معلوم من طريق العقل إن المكسور محصور فهو متناه لنفسه فكيف يقبل الكسر إلى ما لا يتناهى و هذه مسألة تشبه بمسألة انقسام الجسم إلى ما لا نهاية له عقلا لا حسا عند الحكماء لإبطال إثبات الجوهر الفرد الذي تنتهي إليه قسمة الجسم في مذهب المتكلمين فمن هذا المنزل تعرف الحق عند من هو من هاتين الطائفتين و تطلع من هذا المنزل على علم قيام العذاب و حمله في غير أجسام المعذبين و عذاب المعذبين به مع كونه غير قائم بهم و هو من أشكل المسائل كيف يوجب المعنى حكمه لغير من قام به فتشبه أيضا هذه المسألة مسألة من يقول إن اللّٰه إذا أراد أن يمضي أمرا خلق إرادة لا في محل ثم أراد بها إمضاء ذلك الأمر فقد أوجب المعنى حكمه لمن لم يقم به عند مثبتي الصفات أعيانا لها أحكام و هم المتكلمون و الفرق بين هذه المسألة و بين مسألتنا أن العذاب محمول في أجسام و حكمه في أجسام أخر غير الأجسام القائم بها العذاب و العذاب المحمول في هذه الأجسام لا تتعذب به و هو قائم بها و هي متصفة به من كونها محلا له لا من كونها معذبة به و الوجه الجامع بين المسألتين وجود الحكم المضاف إلى المعنى في غير المحل الذي قام به ذلك المعنى و هل العلم مثل الإرادة في هذا الباب و غيره من الصفات أم لا فيقوم العلم بزيد و لا يعلم به زيد و يعلم به عمر و هذا محال عقلا و لكن هذا المنزل يحكم بوقوع ذلك فإن أردت تأنيس النفس لقبول ما أعطاه هذا المنزل في هذه المسألة فانظر ما أنت مجمع عليه مع أصحابك إن الحق سبحانه يتعالى عن الحلول في الأجسام فإن الإنسان إنما يبصر ببصره القائم بجارحة عينه في وجهه و يسمع بسمعه القائم بجارحة أذنه و يتكلم بالكلام الموجود في تحريك لسانه و تسكينه و شفتيه و مخارج حروفه من صدره إلى شفتيه ثم إن هذا الشخص يعمل بطاعة اللّٰه تعالى الزائدة على فرائضه من نوافل الخيرات فينتج له هذا العمل نفي سمعه و بصره و كلامه و جميع معانيه من بطش و سعي التي كانت توجب له أحكامها فكان ينطلق عليه من أحكامها سميع بصير متكلم إلى غير ذلك فصار يسمع بالله بعد ما كان يسمع بسمعه و يبصر بالله بعد ما كان يبصر ببصره مع العلم بأن اللّٰه يتقدس أن تكون الأشياء محلا له أو يكون هو محلا لها فقد سمع العبد بمن لم يقم به و أبصر بما لم يقم به و تكلم بما لم يقم به فكان الحق سمعه و بصره و يده فهكذا وجود العذاب في المحال التي لم تقم بها الصفة التي يكون حكمها العذاب كما قد ثبت أن الصفة تعطي خلاف حكمها في المحل و أنت القائل به و لا فرق بين المسألتين و قد أنشد في ذلك صاحب محاسن المجالس
فهل سمعتم بصب *** سليم طرف سقيم
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية