الفتوحات المكية

في معرفة النفس بفتح الفاء

وهو الباب 198 من الفتوحات المكية

[الأرزاق إما معنوي وإما حسي‏]

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[58] - [الأرزاق إما معنوي وإما حسي‏]

واعلم أن الأرزاق منها معنوي ومنها حسي والمرزوقين منهم معقول ومنهم محسوس ورزق كل مرزوق ما كان به بقاؤه ونعيمه إن كان ممن يتنعم وحياته إن كان ممن يوصف بأنه حي وليست الأرزاق لمن جمعها وإنما الأرزاق لمن تغذى بها يحكي أنه اجتمع متحرك وساكن فقال المتحرك الرزق لا يحصل إلا بالحركة وقال الساكن الرزق يحصل بالحركة والسكون وبما شاء الله وقد فرغ الله منه فقال المتحرك فأنا أتحرك وأنت اسكن حتى أرى من يرزق فتحرك المتحرك فعند ما فتح للباب وجد حبة عنب فقال الحمد لله غلبت صاحبي فدخل عليه وهو مسرور فقال له يا ساكن تحركت فرزقت ورمى بحبة العنب إلى الساكن فأخذها الساكن فأكلها وحمد الله وقال يا متحرك سكنت فأكلت والرزق لمن تغذى به لا لمن جاء به فتعجب المتحرك من ذلك ورجع إلى قول الساكن والمقصود من هذه الحكاية أن الرزق لمن تغذى به فأول رزق ظهر عن الرزاق ما تغذت به الأسماء من ظهور آثارها في العالم وكان فيه بقاؤها ونعيمها وفرحها وسرورها وأول مرزوق في الوجود الأسماء فتأثير الأسماء في الأكوان رزقها الذي به غذاؤها وبقاء الأسماء عليها وهذا معنى قولهم إن للربوبية سرا لو ظهر لبطلت الربوبية فإن الإضافة بقاء عينها في المتضايفين وبقاء المضافين من كونهما مضافين إنما هو بوجود الإضافة فالإضافة رزق المتضايفين وبه غذاؤهما وبقاؤهما متضايفين فهذا من الرزق المعنوي الذي يهبه الاسم الرزاق وهو من جملة المرزوقين فهو أول من تغذى بما رزق فأول ما رزق نفسه ثم رزق الأسماء المتعلقة بالرزق الذي يصلح لكل اسم منها وهو أثره في العالم المعقول والمحسوس ثم نزل في النفس الإلهي بعد الأسماء فوجد الأرواح الملكية فرزقها التسبيح ثم نزل إلى العقل الأول فغذاه بالعلم الإلهي والعلم المتعلق بالعالم الذي دونه وهكذا لم يزل ينزل من عين ما يطلب ما به بقاؤه وحياته إلى عين حتى عم العالم كله بالرزق فكان رزاقا فلما وصل إلى النبات ورأى ما يحتاج إليه من الرزق المعين فأعطاه ما به غذاؤه فرأى جل غذائه في الماء فأعطاه الماء له ولكل حي في العالم وجعله رزقا له ثم جعله رزقا لغيره من الحيوان فهو والحيوان رزق ومرزوق فيرزق فيكون مرزوقا ويرزق به فيكون رزقا وهكذا جميع الحيوان يتغذى ويتغذى به فالكل رزق ومرزوق وإنما أعطى الماء رزقا لكل حي لأنه بارد رطب والعالم في عينه غلبت عليه الحرارة واليبوسة وسبب ذلك أن العالم مقبوض عليه قبضا لا يتمكن له الانفكاك عنه لأنه قبض إلهي واجب على كل ممكن فلا يكون إلا هكذا والانقباض في المقبوض يبس بلا شك فغلب عليه اليبس فهو يطلب بذاته لغلبة اليبس ما يلين به ويرطب فتراه محتاجا من حيث يبسه إلى الرطوبة وأما احتياجه إلى البرودة فإن العالم مخلوق على الصورة ورأى أن من خلق على صورته مطلق الوجود يفعل ما يريد فأراد أن يكون بهذه المثابة ويخرج عن القبض عليه فيكون مسرح العين غير مقبوض عليه في الكون والإمكان يأبى ذلك والصورة تعطيه القوة لهذا الطلب ولا ينال مطلوبه فيدركه الغبن فيحمى فتغلب الحرارة عليه فيتأذى فيخاف الانعدام‏

فيجنح إلى طلب البرودة ليسكن بها ما يجده من ألم الحرارة ويحيي بها نفسه ويبس القبض الذي هو عليه يطلب الرطوبة فنظر الاسم الرزاق في غذاء يحيا به يكون باردا ليقابل به الحرارة وسلطانها ويكون رطبا فيقابل به سلطان اليبس فوجد الماء باردا رطبا فجعل منه كل شي‏ء حي في كل صنف صنف بما يليق به قال تعالى وجَعَلْنا من الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ أي يصدقون بذلك وإنما قرن به الايمان لجواز خلافه عقلا الذي هو ضد الواقع من أنه لو غلب عليه خلاف ما غلب عليه أهلكه فلا بد أن تكون حياته في نقيض ما غلب عليه أ لا ترى لو غلب عليه البرد والرطوبة هلك ولم يكن له حياة إلا الحرارة واليبس فكان يقال في تلك الحال وجعلنا من النار كل شي‏ء حي ولو غلب عليه البرد واليبس لكانت حياته بالهواء فيقال في تلك الحال وجعلنا من الهواء كل شي‏ء حي ولو أفرطت فيه الحرارة والرطوبة لكانت حياته بالتراب وكان يقال لتلك الحالة وجعلنا من التراب كل شي‏ء ثم هذا ما يحتمله التقسيم في هذا لو كان فلما كان الواقع في العالم غلبة الحرارة واليبوسة عليه لما ذكرناه من سبب الصورة والقبض ثار عليه سلطان الحرارة واليبس فلم تكن له حياة إلا ببارد رطب فكان الماء فقال وجَعَلْنا من الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ وينظرون في قولنا من الماء فيعلمون طبع الماء وأثره وفيمن يؤثر وما ذا يدفع به فيعلم إن العالم موصوف بنقيض ما يقتضيه الماء فيحكم عليه به فيعلم الناظر من طبع الدواء ما يقابل به طبع المرض الذي نزل بهذا المريض فنفس الرحمن عنه ما كان يجده هذا المريض فهذا من النفس الرحماني فالأرزاق كلها عند المحقق أدوية لأن العالم كله يخاف التلف على نفسه لأن عينه ظهر عن عدم وقد تعشق بالوجود فإذا قام به من يمكن عنده إذا غلب عليه إن يلحقه بالعدم سارع إلى طلب ما يكون به بقاؤه وإزالة حكم مرضه أو توقع مرضه فذلك رزقه الذي يحيا به ودواؤه الذي فيه شفاؤه أي نوع كان في الشخصيات وكل ما يقبل النمو فهو نبات والذي ينمو به هو رزقه‏


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!