في معرفة النفس بفتح الفاء
وهو الباب 198 من الفتوحات المكية
[شرح الأبيات]
![]() |
![]() |
[5] - [شرح الأبيات]
قوله يخاطب نسيم الصبا ناشدتك الله اعلم أن الصبا هي ريح القبول والصبا الميل والميل قبول وسميت الصبا قبولا لأن العرب لما أرادت أن تعرف الرياح حتى تجعل لها أسماء تذكرها بها لتعرف فاستقبلت مطلع الشمس فكل ريح هبت عليها من جهة مطلع الشمس استقبلته إذ كان وجهها إلى تلك الجهة فسمتها قبولا وما أتى إليها من الريح عن دبر في حال استقبالها ذلك سمته دبورا وهي الريح الغربية وما أتاها منها في هبوبها عن الجانب الأيمن سمته جنوبا وعن جانب الشمال سمته شمالا وكل ريح بين جهتين من هذه الجهات تهب سمتها نكباء من النكوب وهو العدول أي عدلت عن هذه الأربع الجهات والنسيم أول هبوب الريح والشيء المستلذ إذا فاجأك ابتداء فهو ألذ من استصحابه مثل قوله
أحلى من الأمن عند الخائف الوجل
ولهذا نعيم الجنان جديد في كل نفس فلذلك ما ناشد إلا النسيم لالتذاذه به وجعله نسيم الصبا لأنها ريح شرقية قبول فأعطته الريح من إخبارها بما جاءت به من طيبها ما يعطيه قبولها لو أقبلت ورؤيتها لو طلعت عليه كما تطلع الشمس لأن الصبا ريح شرقية والشروق طلوع الشمس والإشراق ضوء الشمس وقوله ناشدتك أي طالبتك مقسما بالله والناشد الطالب فهو كالمستفهم وهذا يدلك على قلة معرفته بمحبوبه حيث جعل له أمثالا لقوله من أين هذا النفس الطيب فإنه ثم من له أنفاس طيبة فلو استفرغ في شغله بمحبوبه ولم ير مشهودا له سواه ما استفهم إذ كل من استفهم فقد أحضر ذلك في ذهنه فهذا شاعر أحضر الاشتراك في ذهنه فشهد على نفسه بنقصان المعرفة إن كان عارفا ونقصان المحبة إن كان محبا عاشقا فإن أراد من المحبوب كثرة وجوهه وتجليه في أعيان متعددة كالاسماء الإلهية لله مع كونه ذاتا واحدة ومع هذا فله تسعة وتسعون اسما فما فوق ذلك فيريد في أي اسم كان لما هبت هذه الريح وهي نسمة قبول إلهي لطيفة الهبوب أورثت في القلب لطفا ورقة بهبوبها فاستفهم الريح لما جاءت به من الطيب المستلذ فقال
هل أودعت برداك عند الضحى *** مكان ألقت عقدها زينب
اعلم أن هذا البيت من أدل دليل على أنه ليس بمحب وأن هذا القول هو إلى هجاء المحبوب أقرب منه إلى الثناء والمدح وذلك أنه لما جاءته الريح بهذا النفس الطيب أضاف ذلك الطيب إلى ما حصل للمكان الذي ألقت عقدها زينب فيه فهو ثناء على العقد فإنه يريد أن عقدها كان عنبرية ذا طيب فطاب المكان بذلك العقد وما ذكر أن العقد إنما اكتسب الطيب من روائح زينب أو عرفها أو أنفاسها فلو سلك في كلامه إن طيب المكان مما تنفست فيه زينب فلو قال مثل ما قلنا
هل أودعت برداك عند الضحى *** طيب مكان طيبت زينب
أنفاسه من طيب أنفاسها *** فطيبها من طيبه أعجب
ولنا في هذا المعنى في غير هذا الروي
ما الطيب في المسك إلا طيب رياها *** والنور في الشمس إلا من محياها
الخلد مأوى الحسان الحور تسكنه *** وذاتها لجنان الخلد مأواها
وأما قوله بعد هذا
أو ناسمت رياك روض الحمى *** وذيلها من فوقه تسحب
فهذا مثل الأول جعل الطيب للروض من ذيل زينب لما سحبته على ذلك المكان طاب من طيب ذيلها وطيب ذيلها من طيب طيبت ثيابها به مثل العقد سواء فما ذكر ما يدل على أن طيب هذه الأماكن من طيب أنفاسها وإذا كان هذا فلا يطيب إلا من ليس بطيب أو ليس له ذلك الطيب ولذا قلنا لو قال النفس الأطيب لا الطيب لكان أشعر وأثبت في المدح ثم قوله للنسيم
فهات أتحفني بأخبارها *** فعهدك اليوم بها أقرب
كلام غير محقق فإن نسيم الريح ما له عهد قريب إلا بالمكان وروض الحمى لا بزينب والطيب للمكان من العقد وللروض من الذيل فلم ينقل هذا النسيم شيئا من طيبها المختص بذاتها ولو كانت مشهودة للنسيم حين هب على المكان والروض
بقوله وذيلها فذكر ما يدخله الاحتمال في الحال فإنه يحتمل أن يكون الحال في قوله وذيلها أي في حال مرورها أكسبت هذا الروض الطيب من ذيلها ويحتمل أن يكون شهود الريح لها في حال مرورها على روض الحمى وهذا بعيد والأول أقرب فإنه لو مر بها مشاهدا لها في حال انسحاب ذيلها على الروض لنقل طيب ذيلها لا طيب الروض من ذيلها فدل أنه ما شاهدها نسيم الريح وإذا لم يشاهدها فليس عهده بها قريبا وإنما عهده قريب بالمكان الذي مرت عليه ثم فيه من النقص بقوله أقرب وصفها بالأمر العام في كل طيب إذ المكان الذي يبقى فيه الطيب إنما يكون قريب العهد بالطيب في جلوسه فيه أو مروره عليه وهذا ليس بمخصوص بها بل لو قال إن طيبها في المكان لا يزول بعد أن اكتسبه منها وأنه بها بعيد عهد ومع هذا فالطيب باق لقوة سلطانه لكان أشعر والنسيم ما نقل إليه إلا طيب المكان والروض فكان ينبغي أن يصدق فكان يقول فعهدك اليوم به أقرب يعني بالمكان أو بكل واحد منهما يعني الروض والمكان أو يقول بهم أقرب فكذب بقوله بها أقرب ثم إنه لا يلزم طيب المكان ولا طيب الروض من إلقاء العقد ولا من طيب الذيل قد يكون طيب الروض من الزهر وطيب المكان من أمر آخر مع وجود العقد فيه وانسحاب الذيل على الروض فهو قاصر بكل وجه فهذا شعر لطيف اللفظ مليح وهو بالمعنى ليس بشيء لأن جمال الشعر والكلام أن يجمع بين اللفظ الرائق والمعنى الفائق فيحار الناظر والسامع فلا يدرى اللفظ أحسن أو المعنى أو هما على السواء فإنه إذا نظر إلى كل واحد منهما أذهله الآخر من حسنه وإذا نظر فيهما معا حيراه فما يستحسن مثل هذا الشعر إلا ذو قلب كثيف فإن اللفظ لطيف والمعنى كثيف وإذا كان المعنى قبيحا عند الصحيح النظر لم يحجبه حسن اللفظ عن قبح المعنى فإن مثاله عندي مثال من بحب صورة في غاية الحسن منقوشة في جدار مزينة بأنواع الأصبغة تامة الخلق لا روح لها فإن المعنى للفظ كالروح للصورة هو جمالها على الحقيقة انظر في إعجاز القرآن تجده كما ذكرنا حسن النظم مع توفير المعنى وحسن مساقه وجمع المعاني بعضها إلى بعض في اللفظ الحسن النظم الوجيز مع وجود تكرار القصة الموجب للملل ولا تجد هذا في القرآن فتجد مع تكرار القصة الواحدة مثل قصص الأمم كآدم وموسى ونوح وغيرهم مما تكرر بزيادة لفظ أو نقصه ما تجد إخلالا في المعنى جملة واحدة وسبب ذلك أنه قول حق ما فيه تزوير ولما أتينا على تنبيه ما في قول هذا الشاعر مع كونه لم يخرج عن حقيقة هذا الباب في ذلك فإنه باب النفس بفتح الفاء والشعر من الكلام فهو من باب الأنفاس فثم أنفاس يخرج معها تحقيق المعاني على ما هي عليه في تركيب بعضها مع بعض وثم أنفاس بالعكس
![]() |
![]() |





