في معرفة النفس بفتح الفاء
وهو الباب 198 من الفتوحات المكية
[ما المراد بالتوحيد]
![]() |
![]() |
[10] - [ما المراد بالتوحيد]
وهذا التوحيد على ستة وثلاثين أعني الواردة في القرآن من حيث ما هو كلام الله فمنه ما هو توحيد الواحد ولهذا يرى بعض العلماء الإلهيين إن الله هو الذي وحد الواحد ولو لا توحيده لم يكن ثم من يقال فيه إنه واحد فوحدانيته أظهرت الواحد ومنه ما هو توحيد الله وهو توحيد الألوهية ومنه ما هو توحيد الهوية ولنذكر هذا كله في هذا الفصل وما له تعالى في هذا التهليل من الأسماء الإلهية ولا نزيد على ما ورد في القرآن من ذلك وهو ستة وثلاثون موضعا وهي عشر درجات الفلك الذي جعل الله إيجاد الكائنات عند حركاته من أصناف الموجودات من عالم الأرواح والأجسام والنور والظلمة فهذه الستة وثلاثون حق الله مما يكون في العالم من الموجودات فإنها مما تكون في عين التلفظ الإنساني بالقرآن فهو كالعشر فيما سقت السماء وهو المسمى الأعلى من قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فالتهليل عشر الذكر وهو زكاته لأنه حق الله فهو عشر ثلاثمائة وستين درجة فمن ذلك
(التوحيد الأول)
وهو قوله تعالى وإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ فهذا توحيد الواحد
بالاسم الرحمن الذي له النفس فبدأ به لأن النفس لولاه ما ظهرت الحروف ولو لا الحروف ما ظهرت الكلمات فنفى الألوهية عن كل أحد وحده الحق تعالى إلا أحديته فأثبت الألوهية لها بالهوية التي أعاد على اسمه الواحد وأول نعت نعته به الرحمن لأنه صاحب النفس وسمي مثل هذا الذكر تهليلا من الإهلال وهو رفع الصوت أي إذا ذكر بلا إله إلا الله ارتفع الصوت الذي هو النفس الخارج به على كل
نفس ظهر فيه غير هذه الكلمة ولهذا
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وما قالها إلا نبي
لأنه ما يخبر عن الحق إلا نبي فهو كلام الحق فارفع الكلمات كلمة لا إله إلا الله وهي أربع كلمات نفي ومنفي وإيجاب وموجب والأربعة الإلهية أصل وجود العالم والأربعة الطبيعية أصل وجود الأجسام والأربعة العناصر أصل وجود المولدات والأربعة الأخلاط أصل وجود الحيوان والأربع الحقائق أصل وجود الإنسان فالأربعة الإلهية الحياة والعلم والإرادة والقول وهو عين القدرة عقلا والقول شرعا والأربع الطبيعة الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة والأربعة العناصر الأثير والهواء والماء والتراب والأربعة الأخلاط المرتان والدم والبلغم والأربع الحقائق الجسم والتغذي والحس والنطق فإذا قال العبد لا إله إلا الله على هذا التربيع كان لسان العالم ونائب الحق في النطق فيذكره العالم والحق بذكره وهذه الكلمة اثنا عشر حرفا فقد استوعبت من هذا العدد بسائط أسماء الأعداد وهي اثنا عشر ثلاث عقود العشرات والمئين والآلاف ومن الواحد إلى التسعة ثم بعد هذا يقع التركيب بما لا يخرجك عن هذه الآحاد إلى ما لا يتناهى فقد ضم ما يتناهى وهو هذه الاثنا عشر ما لا يتناهى وهو ما يتركب منها فلا إله إلا الله وإن انحصرت في هذا العدد في الوجود فجزاؤها لا يتناهى فبها وقع الحكم بما لا يتناهى فبقاء الوجود الذي لا يلحقه عدم بكلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله فهذا عمل نفس الرحمن فبها ولهذا ابتدأ به في القرآن وجعله توحيد الأحد لأن عن الواحد الحق ظهر العالم
(التوحيد الثاني)
من نفس الرحمن الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فهذا توحيد الهوية وهو توحيد الابتداء لأن الله فيه مبتدأ ونعته في هذه الآية بصفة التنزيه عن حكم السنة والنوم لما يظهر به من الصور التي يأخذها السنة والنوم كما يرى الإنسان ربه في المنام على صورة الإنسان التي من شأنها أن تنام فنزه نفسه ووحدها في هذه الصورة وإن ظهر بها في الرؤيا حيث كانت فما هي ممن تأخذها سنة ولا نوم فهذا هو النعت الأخص بها في هذه الآية وقدم الحي القيوم لأن النوم والسنة لا يأخذ إلا الحي القائم أي المتيقظ إذ كان الموت لا يرد إلا على حي فلهذا قيل في الحق إنه الحي الَّذِي لا يَمُوتُ كذلك النوم والسنة والسنة أول النوم كالنسيم للريح فإن النوم بخار وهو هواء والنسيم أوله والسنة أول النوم فلا يرد إلا على متصف باليقظة فهذا توحيد التنزيه عمن من شأنه أن يقبل ما نزه عنه هذا الإله الحي القيوم ولو لا التطويل لذكرنا تمام الآية بما فيها من الأسماء الإلهية
(التوحيد الثالث)
من نفس الرحمن وهو الم الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وهذا توحيد حروف النفس وهو الألف واللام والميم وقد ذكرنا من حقائق هذه الحروف في الباب الثاني من هذا الكتاب ما فيه غنية وهذا التوحيد أيضا توحيد الابتداء وله من أسماء الأفعال منزل الكتاب بالحق من الله المسمى بالحي القيوم فبين أنه منزل الكتاب بالحق من الله المسمى بالحي القيوم فبين أنه منزل الأربعة الكتب يصدق بعضها بعضا لأن أكثر الشهود أربعة والكتب الإلهية وثائق الحق على عباده وهي كتب مواصفة وتحقيق بما له عليهم وما لهم عليه مما أوجبه على نفسه لهم فضلا منه ومنة فدخل معهم في العهدة فقال أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فأدخلنا تحت العهد أعلاما بأنا جحدنا عبوديتنا له إذ لو كنا عبيدا لم يكتب علينا عهده فإنا بحكم السيد فلما أيقنا بخروجنا عن حقيقتنا وادعينا الملك والتصرف والأخذ والعطاء كتب بيننا وبينه عقودا وأخذ علينا العهد والميثاق وأدخل نفسه معنا في ذلك أ لا ترى العبد المكاتب لا يكاتب إلا أن ينزل منزلة الأحرار فلو لا توهم رائحة الحرية ما صحت مكاتبة العبد وهو عبد فإن العبد لا يكتب عليه شيء ولا يجب له حق فإنه ما يتصرف إلا عن إذن سيده فإذا كان العبد يوفي حقيقة عبوديته لم يؤخذ عليه عهد ولا ميثاق أ لا ترى العبد الآبق يجعل عليه القيد وهو الوثاق لإباقه فهذا بمنزلة الوثائق التي تتضمن العهود والعقود التي لا تصح بين العبد والسيد فمن أصب آية تمر على العارفين كل آية فيها أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أو العهود فإنها آيات أخرجت العبيد عن عبوديتهم لله
(التوحيد الرابع)
من نفس الرحمن قوله هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ في الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هذا توحيد المشيئة ووصف الهوية بالعزة وهو قوله ولَمْ يُولَدْ فهو عزيز الحمى إذ كان هو الذي صورنا في الأرحام من غير مباشرة إذ لو باشر لضمه الرحم كما يضم القابل للصورة ولو لم يكن هو المصور
لما صدقت هذه النسبة وهو الصادق فإنه ما أضاف التصوير إلى غيره فقال كَيْفَ يَشاءُ أي كيف أراد فظهر في هذه الكيفية أن مشيئته تقبل الكيفية مع نعته بالعزة ثم بالحكمة والحكيم هو المرتب للأشياء التي أنزلت منازلها فالتصوير يستدعيه إذ كان هو المصور لا الملك مع العزة التي تليق بجلاله فحير العقول السليمة التي تعرف جلاله وأما أهل التأويل فما حاروا ولا أصابوا أعني في خوضهم في التأويل وإن وافقوا العلم فقد ارتكبوا محرما عليهم يسألون عنه يوم القيامة هم وكل من تكلم في ذاته تعالى ونزهة عما نسبه إلى نفسه ورجح عقله على إيمانه وحكم نظره في علم ربه ولم يكن ينبغي له ذلك وهوقوله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له
وذكر بعض ما كذبه فيه لا كله وأبقى له ضربا من الرجاء حيث أضافه إليه في الحديث الذي يقول فيه عبدي فإن قال ابن آدم وهو الأصح في الرواية فأبعده عن نفسه وأضافه إلى ظاهر آدم عليه السلام لأن المعصية بالظاهر وقعت وهو القرب من الشجرة والأكل ونسي ولم يجد له عزما وهو عمل الباطن فبرأ باطنه منها وكانَ عِنْدَ الله وَجِيهاً مجتبى كما قال تعالى
(التوحيد الخامس)
من نفس الرحمن وهو قوله شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ هذا توحيد الهوية والشهادة على الاسم المقسط وهو العدل في العالم وهو قوله أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ فوصف نفسه بإقامة الوزن في التوحيد أعني توحيد الشهادة بالقيام بالقسط وجعل ذلك للهوية وكان الله الشاهد على ذلك من حيث أسماؤه كلها فإنه عطف بالكثرة وهو قوله والْمَلائِكَةُ وأُولُوا الْعِلْمِ فعلمنا حيث ذكر الله ولم يعين اسما خاصا إنه أراد جميع الأسماء الإلهية التي يطلبها العالم بالقسط إذ لا يزن على نفسه فلم يدخل تحت هذا إلا ما يدخل في الوزن فهذا توحيد القسط وقد روينا في ذلك حديثا ثابتا وهو ما
حدثناه يونس بن يحيى عن أبي الوقت عبد الأول الهروي عن ابن المظفر الداودي عن أبي محمد الحموي عن الفربري عن البخاري عن أبي اليمان عن شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قال قال الله عز وجل أنفق أنفق عليك وقال يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار وقال أ رأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يده وكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ وبيده الميزان يخفض ويرفع
خرجه مسلم أيضا عن أبي هريرة وقال يمينه لم يقل يده وقال بيده الأخرى
وهو حديث صحيح فإذا قام العبد بالقسط في تهليل ربه صدقه ربه فقال مثل قوله فهذا من تزكية الله عبده
حدثنا غير واحد منهم ابن رستم مكين الدين أبو شجاع الأصفهاني إمام المقام بالحرم المكي الشريف وعمر بن عبد المجيد الميانشي عن أبي الفتح الكرخي عن الترياقي أبي نصر عن عبد الجبار بن محمد عن المحبوبي عن أبي عيسى الترمذي عن سفيان بن وكيع عن إسماعيل بن محمد عن جحادة عن عبد الجبار بن عباس عن الأغر أبي مسلم قال أشهد على أبي سعيد وأبي هريرة أنهما شهدا على النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قال من قال لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه وقال لا إله إلا أنا وأنا أكبر وإذا قال لا إله إلا الله وحده قال يقول الله لا إله إلا أنا وأنا وحدي وإذا قال لا إله إلا الله له الملك وله الحمد قال الله لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد وإذا قال لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال الله لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي وكان يقول من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار
فمن أعطى الحق من نفسه لربه ولغيره ولنفسه من نفسه بإقامة الوزن على نفسه في ذلك فلم يترك لنفسه ولا لغيره عليه حقا جملة واحدة قام في هذا المقام بالقسط الذي شهد به لربه فإنها شهادة أداء الحقوق من يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وما كان له من حق تعين له عند غيره أسقطه ولم يطالب به إذ كان له ذلك ف وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله ثم يؤيد ما ذكرناه في إعطاء الحق في هذه الشهادة قوله بعد قوله قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فشهد الله لنفسه بتوحيده وشهد لملائكته وأولي العلم أنهم شهدوا له بالتوحيد فهذا من قيامه بالقسط وهو من باب فضل من أتى بالشهادة قبل أن يسألها فإن الله شهد لعباده أنهم شهدوا بتوحيده من قبل أن يسأل منه عباده ذلك وبين في هذه الآية أن الشهادة لا تكون إلا عن علم لا عن غلبة ظن ولا تقليد إلا تقليد معصوم فيما يدعيه فتشهد له بأنك على علم كما نشهد نحن على الأمم أن أنبياءها بلغتها دعوة الحق ونحن ما كنا في زمان التبليغ ولكنا صدقنا الحق فيما أخبرنا به في كتابه عن نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الايكة وقوم موسى وشهادة خزيمة وذلك لا يكون إلا لمن هو في إيمانه على علم بمن آمن به لا على تقليد وحسن ظن فاعلم ذلك
(التوحيد السادس)
من نفس الرحمن هو قوله الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ هذا أيضا توحيد الابتداء وهو توحيد الهوية المنعوت بالاسم الجامع للقضاء والفصل فمن رحمة الله أنه قال لَيَجْمَعَنَّكُمْ فما نجتمع إلا فيما لا نفترق فيه وهو الإقرار بربوبيته سبحانه وإذا جمعنا من حيث إقرارنا له بالربوبية فهي آية بشرى وذكر خير في حقنا بسعادة الجميع وإن دخلنا النار فإن الجمعية تمنع من تسرمد الانتقام لا إلى نهاية لكن يتسرمد العذاب وتختلف الحالات فيه فإذا انتهت حالة الانتقام ووجدان الآلام أعطى من النعيم والاستعذاب بالعذاب ما يليق بمن أقر بربوبيته ثم أشرك ثم وحد في غير موطن التكليف والتكليف أمر عرض في الوسط بين الشهادتين لم يثبت فبقي الحكم للأصلين الأول والآخر وهو السبب الجامع لنا في القيامة فما جمعنا إلا فيما اجتمعنا
فإذا استعذبوا العذاب أريحوا *** من أليم العذاب وهو الجزاء
قال أبو يزيد الأكبر البسطامي
وكل مآربي قد نلت منها *** سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
لم يقل بالألم ولنا في هذا الباب نظم كثير
(التوحيد السابع)
من نفس الرحمن هو قوله ذلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ هذا توحيد الرب بالاسم الخالق وهو توحيد الهوية فهذا توحيد الوجود لا توحيد التقدير فإنه أمر بالعبادة ولا يأمر بالعبادة إلا من هو موصوف بالوجود وجعل الوجود للرب فجعل ذلك الاسم بين الله وبين التهليل وجعله مضافا إلينا إضافة خاصة إلى الرب فهي إضافة خصوص لنوحده في سيادته ومجده وفي وجوب وجوده فلا يقبل العدم كما يقبله الممكن فإنه الثابت وجوده لنفسه ويوحد أيضا في ملكه بإقرارنا بالرق له ولنوحده توحيد المنعم لما أنعم به علينا من تغذيته إيانا في ظلم الأرحام وفي الحياة الدنيا ولنوحده أيضا فيما أوجده من المصالح التي بها قوامنا من إقامة النواميس ووضع الموازين ومبايعة الأئمة القائمة بالدين وهذه الفصول كلها أعطاها الاسم الرب فوحدناه ونفينا ربوبية ما سواه قال يوسف لصاحبي السجن أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الْواحِدُ الْقَهَّارُ
(التوحيد الثامن)
من نفس الرحمن قوله تعالى اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ هذا توحيد الاتباع وهو من توحيد الهوية فهو توحيد تقليد في علم لأنه نصب الأسباب وأزال عنها حكم الأرباب لما قالوا ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى فلو قالوا ما نتخذهم وأبقوا العبودية لجناب الله تعالى لكان لهم في ذلك مندوحة بوضع الأسباب الإلهية المقررة في العالم فأمر صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن يعرض عن الشرك لا عن السبب فإنه قال في مصالح الحياة الدنيا ولَكُمْ في الْقِصاصِ حَياةٌ فعلل ولام العلة في القرآن كثير وهذا أيضا فيه ما في السابع من توحيد الاسم الرب وعمم إضافة جميعنا إليه وهنا خصص به الداعي فكأنه توحيد في مجلس محاكمة فيدخل فيه توحيد المقسط لإقامة الوزن في الحكم بين الخصماء بين ذلك قوله وأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وخص به الداعي لمجيئه بالتوحيد الإيماني لا التوحيد العقلي وهو توحيد الأنبياء والرسل لأنها ما وحدت عن نظر وإنما وحدت عن ضرورة علم وجدته في نفسها لم تقدر على دفعه فترك المشركين وآلهتهم وانفرد بغار حرا يتحنث فيه من غير معلم إلا ما يجده في نفسه حتى فجئه الحق وهو قوله اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي أنه لا يقبل الشريك فأعرض عنهم حتى يستحكم الايمان وأقمه بنفس الرحمن فاجعل له أنصارا وآمرك بقتال المشركين لا بالإعراض عنهم
(التوحيد التاسع)
من نفس الرحمن هو قوله إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي ويُمِيتُ توحيد الهوية في الاسم المرسل وهو توحيد الملك ولهذا نعته بأنه يحيي ويميت إذ الملك هو الذي يحيي ويميت ويعطي ويمنع ويضر وينفع فمن أعطى أحيا ونفع ومن منع أضر وأمات ومن منع لا عن بخل كان منعه حماية وعناية وجودا من حيث لا يشعر الممنوع وكان الضرر في حقه حيث لم يبلغ إلى نيل غرضه لجهله بالمصلحة فيما حماه عنه النافع ومات هذا الممنوع لكونه لم تنفذ إرادته كما لا تنفذ إرادة الميت فهذا منع الله وضرره وإماتته فإنه المنعم المحسان فأرسل الرسل بالتوحيد تنبيها لإقرارهم في الميثاق الأول فقال وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فمن وحده بلسان رسوله لا من لسانه جازاه الله على توحيده جزاء رسوله فإن وحده
لا بلسان رسوله بل بلسان رسالته جازاه مجازاة إلهية لا تعرف يدخل تحت
قوله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
انتهى الجزء التاسع عشر ومائة
( (بسم الله الرحمن الرحيم))
(التوحيد العاشر)
من نفس الرحمن قوله وما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ هذا توحيد الأمر بالعبادة وهو من أعجب الأمور كيف يكون الأمر فيما هو ذاتي للمأمور فإن العبادة ذاتية للمخلوقين ففيم وقع الأمر بالعبادة فأما في حق المؤمنين فأمرهم إن يعبدوه من حيث أحدية العين لما قال في حق طائفة قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فما هي هذه الطائفة التي أمرت أن تعبد إلها واحدا فلا تنظروا في الأسماء الإلهية من حيث ما تدل على معان مختلفة فتتعبدهم معانيها فتكون عبادتهم معلولة حيث رأوا أن كل حقيقة منهم مرتبطة بحقيقة إلهية يتعلق افتقارها القائم بها إليها وهي متعددة فإن حقيقة الطلب للرزق إنما تعبد الرزاق وحقيقة الطلب للعافية إنما تعبد الشافي فقيل لهم لا تعبدوا إلا إلها واحدا وهو أن كل اسم إلهي وإن كان يدل على معنى يخالف الآخر فهو أيضا يدل على عين واحدة تطلبها هذه النسب المختلفة وأما من حمل العبادة هنا على الأعمال فلا معرفة له باللسان فالعمل صورة والعبادة روح لتلك الصورة العملية التي أنشأها المكلف وأما غير المؤمنين وهم المشركون فهم الذين نسبوا الألوهة إلى غير من يستحقها ووضعوا اسمها على غير مسماها وادعوا الكثرة فيها كما ادعوا الكثرة في الإنسانية فدعواهم فيها صحيحة وما عرفوا بطلانها في الإلهية ولذلك تعجبوا من توحيدها فقالوا أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وما علموا إن جعل الألوهة في الكثيرين أعجب فقيل لهم وإن كنتم ما عبدتم كل من عبدتموه إلا بتخيلكم إن الألوهة صفته فما عبدتم غيرها ليس الأمر كذلك فإنكم شهدتم على أنفسكم إنكم ما تعبدونها إلا لتقربكم إلى الله زلفى فأقررتم مع شرككم إن ثم إلها كبيرا هذه الآلهة خدمتكم إياها تقربكم من الله فهذه دعوى بغير برهان وهو قوله ومن يَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ به وهذه أرجى آية للمشرك عن نظر جهد الطاقة وتخيله في شبهه أنها برهان فيقوم له العذر عند الله فإذ وقد اعترفوا أنهم عبدوا الشريك ليقربهم إلى الله زلفى فتح القائل على نفسه باب الاعتراض عليه بأن يقال له ومن أين علمتم إن هذه الحجارة أو غيرها لها عند الله من المكانة بحيث أن جعلها معبودة لكم كما قال فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فالذين عبدوا من ينطق ويدعي الألوهة أقرب حالا من عبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا وهذا قول إبراهيم لأبيه وهو الذي قال فيه تعالى وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ وأبوه من قومه وهذه وغيرها من الحجة التي أعطاه الله فأمرهم الله أن لا يعبدوا إلا إلها واحدا لا إله إلا هو في نفس الأمر سبحانه أي هو بعيد أن يشرك في ألوهته فهذا توحيد الأمر
(التوحيد الحادي عشر)
من نفس الرحمن قوله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ هذا توحيد الاستكفاء وهو من توحيد الهوية لما قال الله تعالى وتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوى فأحالنا علينا بأمره فبادرنا لامتثال أمره فمنا من قال لو لا إن الله قد علم إن لنا مدخلا صحيحا في إقامة ما كلفنا من البر والتقوى ما أحالنا علينا ومنا من قال التعاون الذي أمرنا به على البر والتقوى أن يرد كل واحد منا صاحبه إلى ربه في ذلك ويستكفي به فيما كلفه وهو قوله اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ خطاب تحقيق واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ خطاب ابتلاء فإذا سمع القوم اللذين قالوا إن لنا مدخلا محققا في العمل ولهذا أمرنا بالتعاون ما قاله من جعله خطاب ابتلاء أو حمله على الرد إلى الله في ذلك لما علمنا أن نقول وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ واسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وهو قول موسى لقومه مع أنهم ما طلبوا معونة الله إلا وعندهم ضرب من الدعوى ولكن أعلى من أصحاب المقام الأول وأقرب إلى الحق فتولوا عنهم في هذا النظر ولم يقولوا به فكيف حالهم مع من هو مشهده وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فقال تعالى لهم فَإِنْ تَوَلَّوْا عما دعوتموهم إليه فَقُلْ حَسْبِيَ الله أي في الله الكفاية لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فإذا كان رب العرش والعرش محيط بعالم الأجسام وأنت من حيث جسميتك أقل الأجسام
فاستكف بالله الذي هو رب مثل هذا العرش ومن كان الله حسبه انقلب بِنِعْمَةٍ من الله وفَضْلٍ لم يمسسه سوء وجاء في ذلك بما يرضى الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ على من جعله حسبه والفضل الزيادة أي ما يعطيه على موازنة عمله بل أزيد من ذلك مما يعظم عنده إذا رآه ذوقا ومن أعجب ما رأيت من بعض الشيوخ من أهل الله ممن كان مثل أبي يزيد في الحال وربما أمكن منه فيه فقعدت مع هذا الشخص يوما بجامع دمشق وهو يذكر لي حاله مع الله وما يجري له معه في وقائعه فقال لي إن الحق ذكر له عظم ملكه قال الشيخ فقلت له يا رب ملكي أعظم من ملكك فقال لي كيف تقول وهو أعلم فقلت له يا رب لأن مثلك في ملكي فإنك لي تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك وما في ملكك مثلك قال فقال لي صدقت وما رأيت أحدا ذهب إلى ما يقارب هذا المذهب أو هو هو سوى محمد بن علي الترمذي الحكيم فإنه يقول في هذا المقام مقام ملك الملك وقد شرحناه في مسائل الترمذي في هذا الكتاب التي سأل عنها أهل الله في كتاب ختم الأولياء ثم بكى هذا الشيخ أدبا مع الله ويقول يا أخي هو يجزئني عليه ويباسطني فكنت أقول له إذا كان يفرح بتوبة عبده كما قاله عنه رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فكيف يكون نظره إلى العارفين به
(التوحيد الثاني عشر)
من نفس الرحمن هو قوله حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ هذا توحيد الاستغاثة وهو توحيد الصلة فإنه جاء بالذي في هذا التوحيد وهو من الأسماء الموصولة وجاء بهذا ليرفع اللبس عن السامعين كما فعلت السحرة لما آمنت برب العالمين فقالت رَبِّ مُوسى وهارُونَ لرفع اللبس من أذهان السامعين ولهذا توعدهم ثم تمم وقال وأَنَا من الْمُسْلِمِينَ لما علم إن الإله هو الذي ينقاد إليه ولا ينقاد هو لأحد قال على ابن أبي طالب أهللت بما أهل به رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وهو لا يعرف بما أهل به فقيل منه مع كونه أهل على غير علم محقق فأحرى إذا كان على علم محقق فاعلم بذلك فرعون ليعلم قومه برجوعه عما كان ادعاه فيهم من أنه ربهم الأعلى فأمره إلى الله فإنه آمن عند رؤية البأس وما نفع مثل ذلك الايمان فرفع عنه عذاب الدنيا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ ولم يتعرض للآخرة ثم إن الله صدقه في إيمانه بقوله آلْآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ فدل على إخلاصه في إيمانه ولو لم يكن مخلصا لقال فيه تعالى كما قال في الأعراب الذين قالوا آمنا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ولَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ في قُلُوبِكُمْ فقد شهد الله لفرعون بالإيمان وما كان الله ليشهد لأحد بالصدق في توحيده إلا ويجازيه به وبعد إيمانه فما
عصى فقبله الله إن كان قبله طاهرا والكافر إذا أسلم وجب عليه إن يغتسل فكان غرقه غسلا له وتطهيرا حيث أخذه الله في تلك الحالة نَكالَ الْآخِرَةِ والْأُولى وجعل ذلك عبرة لِمَنْ يَخْشى وما أشبه إيمانه إيمان من غرغر فإن المغرغر موقن بأنه مفارق قاطع بذلك وهذا الغرق هنا لم يكن كذلك لأنه رأى البحر يبسا في حق المؤمنين فعلم أن ذلك لهم بإيمانهم فما أيقن بالموت بل غلب على ظنه الحياة فليس منزلته منزلة من حضره الموت فقال إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ولا هو من الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهُمْ كُفَّارٌ وأَمْرُهُ إِلَى الله تعالى ولما قال الله له فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً كما كان قوم يونس فهذا إيمان موصول وقدم الهوية لبعيد ضميريه عليه ليلحق بتوحيد الهوية
(التوحيد الثالث عشر)
من نفس الرحمن هو قوله فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ الله وأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ هذا توحيد الاستجابة وهو توحيد الهو وهو توحيد غريب فإن قوله فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا يعني المدعين لَكُمْ يعني الداعين فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ الله فالضمير في فاعلموا يعود على الداعين وهم عالمون بأنه إنما أنزل بعلم الله ولو أراد المدعين لقال فيعلموا بالياء كما قال يستجيبوا بياء الغيبة ثم قال وأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي واعلموا أنه لا إله إلا هو كما علمتم أنه إنما أنزل بعلم الله ثم قال فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وقد كانوا مسلمين وهذا كله خطاب الداعين إن كانت هل على بابها وإن كانت هنا مثل ما هي في قوله هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ اعتمادا على قرينة الحال فأخرجت عن الاستفهام وإلا فما هذا خطاب الداعين إلا أن يكون مثل قولهم
إياك أعني فاسمعي يا جارة
فالخطاب لزيد والمراد به عمرو ولَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وفَإِنْ كُنْتَ في شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ من قَبْلِكَ ومعلوم أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو عَلى بَيِّنَةٍ من رَبِّهِ في ماله فعلمنا بقرائن الأحوال أنه المخاطب والمراد غيره لا هو وحكمة ذلك مقابلة الإعراض بالإعراض لأنهم أعرضوا عن قبول دعوة الداعين فأعرض الله عنهم
بالخطاب والمراد به هم فأسمعهم في غيرهم وأما فائدة العلم في ذلك فهي إن تقول لما علم الله أن قوما لا يؤمنون ارتفعت الفائدة في خطابهم وكان خطابهم عبثا فأخبرهم الله تعالى أن نزول الخطاب بالدعوة لمن ليس يقبله في علم الله أنه إنما أنزل بعلم الله أي سبق في علم الله إنزاله فلا بد من إنزاله لأن تبدل المعلوم محال كما قال ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ لأنه سبق في علم الله أن تكون خمس صلوات في العمل وخمسون في الأجر فما زال يحط من الخمسين بعلم الله إلى أن انتهى إلى علم الله بإثبات الخمس فنع النقص من ذلك وقال ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وهكذا يكون الله علمه في الأشياء سابق لا يحدث له علم بل يحدث التعلق لا العلم ولو حدث العلم لم تقع الثقة بوعده لأنا لا ندري ما يحدث له فإن قلت فهذا أيضا يلزم في الوعيد قلنا كذا كنا نقول ولكن علمنا أنه ما أرسل رسولا إلا بلسان قومه وبما تواطئوا عليه من كل ما هو محمود فيعاملهم بذلك في شرعهم كذا سبق علمه وهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ومما يتمدح به أهل هذا اللسان بل هو مدح في كل أمة التجاوز عن إنفاذ الوعيد في حق المسيء والعفو عنه والوفاء بالوعد الذي هو في الخير وهو الذي يقول فيه شاعر العرب
وإني إذا أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادى ومنجز موعدي
فكان إنزال الوعيد بعلم الله الذي سبق بإنزاله ولم يكن في حق قوم إنفاذه في علم الله ولو كان في علم الله لنفذ فيهم كما ينفذ الوعد الذي هو في الخير لأن الإيعاد لا يكون إلا في الشر والوعد يكون في الخير وفي الشر معا يقال أوعدته في الشر ووعدته في الشر والخير وقال تعالى وما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فمما بين لهم تعالى التجاوز عن السيئات في حق من أساء من عباده والأخذ بالسيئة من شاء من عباده ولم يفعل ذلك في الوعد بالخير فأعلمنا ما في علمه فكما هو واحد في ألوهيته هو واحد في أمره فما أنزل إلا بعلم الله سواء نفذ أو لم ينفذ
(التوحيد الرابع عشر)
من نفس الرحمن وهو قوله وهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإِلَيْهِ مَتابِ هذا توحيد الرجعة وهو توحيد الهوية أخبر أنهم يكفرون بالرحمن لأنهم جعلوا هذا الاسم إذ لم يكن عندهم ولا سمعوا به قبل هذا فلما قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وما الرَّحْمنُ ... وزادَهُمْ هذا الاسم نُفُوراً فإنهم لا يعرفون إلا الله الذين يعبدون الشركاء ليقربوهم إلى الله زلفى ولما قيل لهم اعبدوا الله لم يقولوا وما الله وإنما أنكروا توحيده وقد نقل إنهم كانوا يعرفونه مركبا الرحمن الرحيم اسم واحد كبعلبك ورامهرمز فلما أفرده وبغير نسب أنكروه فإنه يقال في النسب بعلي فقال لهم الداعي الرحمن هو ربي ولم يقل هو الله وهم لا ينكرون الرب ولما كان الرحمن له النفس وبالنفس حياتهم فسره بالرب لأنه المغذي وبالغذاء حياتهم فلا يفرقون من الرب ويفرقون من الله ولهذا عبدوا الشركاء ليشفعوا لهم عند الله إذ بيده الاقتدار الإلهي والأخذ الشديد وهو الكبير عندهم المتعالي فهم معترفون مقرون به فتلطف لهم بالعبارة بالاسم الرب ليرجعوا فهو أقرب مناسبة بالرحمن قال لموسى وهارون فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى والترجي من الله واقع كما قالوا في عسى فإنهما كلمتا ترج ولم يقل لهما لعله يتذكر أو يخشى في ذلك المجلس ولا بد ولا خلصه للاستقبال الأخراوي فإن الكل يخشونه في ذلك الموطن فجاء بفعل الحال الذي يدخله الاحتمال بين حال الدنيا وبين استقبال التأخير للدار الآخرة وذلك لا يكون مخلصا للمستقبل إلا بالسين أو سوف فالذي ترجى من فرعون وقع لأن ترجيه تعالى واقع فآمن فرعون وتذكر وخشي كما أخبر الله وأثر فيه لين قول موسى وهارون ووقع الترجي الإلهي كما أخبر فهذا يدلك على قبول إيمانه لأنه لم ينص إلا على ترجى التذكر والخشية لا على الزمان إلا أنه في زمان الدعوة ووقع ذلك في زمان الدعوة وهو الحياة الدنيا وأمر نبيه أن يقول بحيث يسمعون قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في أمركم وإِلَيْهِ مَتابِ أي مرجعي في أمركم عسى يهديكم إلى الايمان فما أغلظ لهم بل هذا أيضا من القول اللين لتتوفر الدواعي من المخاطبين للنظر فيما خاطبهم به إذ لو خاطبهم بصفة القهر وهو غيب لا عين له في الوقت إلا مجرد إغلاظ القول لنفرت طباعهم وأخذتهم حمية الجاهلية لمن نصبوهم آلهة فأبقى عليهم وهو قوله تعالى وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ولم يقل للمؤمنين وكان سبب نزولها أن دعا على رعل وذكوان وعصية شهرا كاملا في كل صلاة بأن يأخذهم الله فعتبه الله في ذلك وفيه تنبيه على رحمة الله بعباده لأنهم على كل حال عباده معترفون به معتقدون لكبريائه طالبون القربة إليه لكنهم جهلوا طريق القربة ولم يوفوا النظر
حقه ولا قامت لهم شبهة قوية في صورة برهان فكانوا يدخلون بها في مفهوم قوله ومن يَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ به ويريد بالبرهان هنا في زعم الناظر فإنه من المحال أن يكون ثم دليل في نفس الأمر على إله آخر ولم يبق إلا أن تظهر الشبهة بصورة البرهان فيعتقد أنها برهان وليس في قوته أكثر من هذا
(التوحيد الخامس عشر)
من نفس الرحمن هو قوله يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ من أَمْرِهِ عَلى من يَشاءُ من عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ هذا توحيد الإنذار وهو توحيد الإنابة استوى في هذا التنزل في التوحيد رسل البشر والمرسلون إليهم فإن الملائكة هي التي نزلت بالإنذار من أجل أمر الله لهم بذلك والروح هنا ما نزلوا به من الإنذار ليحيى بقبوله من قبله من عباده كما تحيي الأجسام بالأرواح فحييت بهذا الروح المنزل رسل البشر فأنذروا به فهذا توحيد عظيم نزل من جبار عظيم بتخويف وتهديد مع لطف خفي في قوله فَاتَّقُونِ أي فاجعلوني وقاية تدفعون بي ما أنذرتكم به هذا لطفه ليس معناه فخافوني لأنه ليس لله وعيد وبطش مطلق شديد ليس فيه شيء من الرحمة واللطف ولهذا قال أبو يزيد وقد سمع قارئا يقرأ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ فقال بطشي أشد فإن بطش المخلوق إذا بطش لا يكون في بطشه شيء من الرحمة بل ربما ما يقدر أن يبلغ في المبطوش به ما في نفسه من الانتقام منه لسرعة موت ذلك الشخص ولما كانت الرحمة منزوعة عن بطشه قال بطشي أشد وسبب ذلك ضيق المخلوق فإنه ما له الاتساع الإلهي وبطش الله وإن كان شديدا ففي بطشه رحمة بالمبطوش به وبطش المخلوق ليستريح من الضيق والحرج الذي يجده في نفسه بما يوقعه بهذا به المبطوش فيطلب في بطشه الرحمة بنفسه في الوقت وقد لا ينالها كلها بخلاف الحق تعالى فإن بطشه لسبق العلم يأخذ هذا المبطوش به للسبب الموجب له لا غير والمنتقم لغيره ما هو كالمنتقم لنفسه
(التوحيد السادس عشر)
من نفس الرحمن وهو قوله فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفى الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى هذا توحيد الأبدال فإنه أبدل الله من الرحمن وهذا في المعنى بدل المعرفة من النكرة لأنهم أنكروا الرحمن وفي اللفظ بدل المعرفة من المعرفة وهو من توحيد الهوية القائمة بأحكام الأسماء الحسنى لا إن الأسماء الحسنى تقوم معانيها بها بل هي القائمة بمعاني الأسماء كما هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ كذلك هو قائم بكل اسم بما يدل عليه وهذا علم غامض ولهذا قال في هذا التوحيد يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفى لما قال وإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فالأخفى عن صاحب السر هو ما لا يعلمه مما يكون لا بد أن يعلمه خاصة وما تسمى إلا بأحكام أفعاله من طريق المعنى فكلها أسماء حسني غير أنه منها ما يتلفظ بها ومنها ما يعلم ولا يتلفظ بها لما هو عليه حكمها في العرف من إطلاق الذم عليها فإنه يقول فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها وقدم الفجور على التقوى عناية بنا إلى الخاتمة والغاية للخير فلو أخر الفجور على التقوى لكان من أصعب ما يمر علينا سماعه فالفجور يعرض للبلاء والتقوى محصل للرحمة وقد تأخر التقوى فلا يكون إلا خيرا وقال تعالى الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ولا يشتق له منه اسم لما ذكرناه فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى في العرف وحسن غيرها مبطون مجهول في العرف إلا عند العارفين بالله ويندرج في هذا العلم بسبب الألف واللام التي هي للشمول جميع ما ينطلق عليه اسم السر وما هو أخفى من ذلك السر ومن
السر النكاح قال تعالى ولكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي نكاحا فإن الله أيضا يعلمه وإن كانت الآية تدل بظاهرها على ما يحدث المرء به نفسه لقوله وإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فإنه يعلم ذلك ويعلم ما تحدث به نفسك وهو قوله ونَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ به نَفْسُهُ ومع هذا فإن الألف واللام لها حكم في مطلق اسم السر فيعلم ما ينتجه النكاح وهو قوله تعالى ويَعْلَمُ ما في الْأَرْحامِ فإنه الخالق ما فيها أَ لا يَعْلَمُ من خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ لعلمه بالسر الْخَبِيرُ لعلمه بما هو أخفى ومن هذه الحضرة نصب الأدلة على معرفته وجعل في نفوس العلماء تركيب المقدمات على الوجه الخاص والشرط الخاص فأشبهت المقدمات النكاح من الزوجين بالوقاع ليكون منه الإنتاج فالوجه الخاص الرابط بين المقدمتين وهو أن واحدا من المقدمتين يتكرر فيهما ليربط بعضهما ببعض من أجل الإنتاج والشرط الخاص أن يكون الحكم أعم من العلة أو مساويا لها حتى يدخل هذا المطلوب تحت الحكم ولو كان الحكم أخص لم ينتج وخرج عنه كقولهم كل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فالحادث هنا هو الحكم والمقدمة الأخرى والأجسام لا تخلو عن الحوادث فالحوادث هو الوجه الخاص الجامع بين المقدمتين فانتج إن الجسم حادث ولا بد فالحكم أعم لأن العلة الحوادث القائمة به والحكم كونه حادثا
وما كل حادث يقال فيه إنه لا يخلو عن الحوادث فهذا حكم أعم من العلة فالنتيجة صحيحة ثم الاستفصال في تصحيح المقدمتين معلوم الطريق في ذلك وإنما قصدنا التمثيل لا معرفة حدوث الأجسام ولا غيرها وإذا علمت أن الإيجاد لا يصح إلا على ما قررناه وهو بمنزلة السر في النكاح ينتقل إلى العلم بما هو أخفى من السر كما تنتقل مما ضربت لك به المثل إلى كون الحق أوجد العالم على هذا المساق وظهر العالم عن ذات موصوفة بالقدرة والإرادة فتعلقت الإرادة بإيجاد موجود ما وهو التوجه مثل اجتماع الزوجين فنفذ الاقتدار فأوجد ما أراد فكان أخفى من السر لجهلنا بنسبة هذا التوجه إلى هذه الذات ونسبة الصفات إليها لأنها مجهولة لنا لا تعرف فيعرف التوجه والصفة من حيث عينه وعين الصفة ويجهل كيفية النسبة لجهلنا بالمنسوب إليه لا بالمنسوب فهذا توحيد الموجد للأشياء مع كثرة النسب فهو واحد في كثير فأوقع الحيرة هذا العلم في هذا المعلوم إلا لمن كشف الله عن عينه غطاء الستر فأبصر الأمر على ما هو عليه فحكم بما شاهد واختلفوا هل يجوز وقوع مثل هذا أو لا يجوز
(التوحيد السابع عشر)
من نفس الرحمن هو قوله وأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إِنَّنِي أَنَا الله لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي هذا توحيد الاستماع وهو توحيد الإنابة وقوى بالجمع إذ قد قرئ وأنا اخترناك فكثر ثم أفرد فقال إِنَّنِي وإن كلمة تحقيق فالإنية هي الحقيقة ولما كان حكم الكناية بالياء يؤثر في صورة الحقيقة نظرت من في الوجود على صورتها فوجدت نونا من النونات فقالت لها قني بنفسك من أجل كناية الياء لئلا تؤثر في صورة حقيقتي فيشهد الناظر والسامع التغيير في الحقيقة أن الياء هي عين الحقيقة فجاءت نون الوقاية فحالت بين الياء ونون الحقيقة فأحدثت الياء الكسر في النون المجاورة لها فسميت نون الوقاية لأنها وقت الحقيقة بنفسها فبقيت الحقيقة على ما كانت عليه لم يلحقها تغيير فقال إِنَّنِي أَنَا الله ولو لا نون الوقاية لقال إني أنا الله فغيرها وتغيير الحقيقة بالضمير في الآن هو مقام تجليه في الصور يوم القيامة وما ثم إلا صورتان خاصة لا ثالثة لهما صورة تنكر وصورة تعرف ولو كان ما لا يتناهى من الصور فإنها محصورة في هذا الحكم إما أن تنكر أو تعرف لا بد من ذلك فإذا قرئ وأَنَا اخْتَرْتُكَ كان أحق بالآية وأنسب وأنفى للتغيير فإنه ما زال التوحيد يصحبها إلى آخر الآية في قوله فَاعْبُدْنِي وإذا قرئ بالجمع ظهر التغير بالانتقال في العين الواحدة من الكثير إلى الواحد فمساق الآية يقوي وأنا اخترناك لأنه عدد أمورا تطلب أسماء مختلفة فلا بد من التغيير والتجلي في كل صورة يدعى إليها وكان جملة ما تحصل من الصور في هذه الواقعة لموسى على ما روى اثنتي عشرة ألف صورة يقول له في كل صورة يا موسى ليتنبه موسى على أنه لو أقيم لصورة واحدة لا تسق الكلام ولم يقل في كل كلمة يا موسى فاعلم ذلك فإن هذا التوحيد في هذه الآية من أصعب ما يكون لقوله وأنا اخترناك فجمع ثم أفرد ثم عدد ما كلم به موسى عليه السلام فهذا توحيد الجمع على كل قراءة غير أن قوله وأنا اخترناك قرأ بها حمزة على رب العزة في المنام فقال له ربه وأنا اخترناك فهي قراءة برزخية فلهذا جمع لأنه تجل صوري في منام فلا بد أن تكون القراءة هكذا فإذا أفردتها بعد الجمع فلأحدية الجمع لا غير
(التوحيد الثامن عشر)
من نفس الرحمن هو قوله إِنَّما إِلهُكُمُ الله الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً هذا توحيد السعة من توحيد الهوية وهو توحيد تنزيه لئلا يتخيل في سعته الظرفية للعالم من أجل الاسم الباطن والظاهر ونفس الرحمن والكلمات التي لا تنفد والقول فقال إن سعته علمه بكل شيء لا أنه طرف لشيء وسبب هذا التوحيد لما جاء في قصة السامري وقوله عن العجل لما نبذ فيه ما قبضه من أثر الرسول فكان العجل ظرفا لما نبذ فيه فلما خار العجل قال هذا إِلهُكُمْ وإِلهُ مُوسى فقال الله إِنَّما إِلهُكُمُ إله واحد لا تركيب فيه وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي هو عالم بكل شيء أكذب السامري في قوله ثم نصب لهم الدلالة على كذب السامري مع كون العجل خار فقال مثل ما قال إبراهيم في الأصنام أَ فَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا أي إذا سئل لا ينطق والله يكون متصفا بالقول ولا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا ولا نَفْعاً أي لا ينتفعون به لأنه قال لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ في الْيَمِّ نَسْفاً ومن لا يدفع الضرر عن نفسه كيف يدفع عن غيره وإذا حرقه ونسفه لم ينتفع به فإنه لو أبقاه دخلت عليهم الشبهة بما يوجد في الحيوان من الضرر والنفع وفي إقامة هذه الأدلة أمور كبار قال تعالى عن اليهود إنهم قالوا يَدُ الله مَغْلُولَةٌ وقالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ ونَحْنُ أَغْنِياءُ وقال إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وأصمنا عن إدراك هذا القول
إلا بطريق الايمان وأعمانا عن توجهه على إيجاد الأشياء بما نصب من الأسباب فأنزل المطر فنزل وحرثت الأرض وبذر الحب وانبسطت الشمس وطلع الحب وحصد وطحن وعجن وخبر ومضغ بالأسنان وابتلع ونضج في المعدة وأخذه الكبد فطبخه دما ثم أرسل في العروق وانقسم على البدن فصعد منه بخار فكان حياة ذلك الجسم من أجل ذلك النفس فهذه أمهات الأسباب مع تحريك الأفلاك وسير الكواكب وإلقاء الشعاعات على مطارح الأنوار مع نظير النفس الكلية بإذن الله مع إمداد العقل لها هذه كلها حجب موضوعة أمهات سوى ما بينها من دقائق الأسباب فيحتاج السمع إلى شق هذه الحجب كلها حتى يسمع قول كُنْ فخلق في المؤمن قوة الايمان فسرت في سمعه فأدرك قول كن وسرت في بصره فشاهد المكون للأسباب وفعل هذا كله من نفس الرحمن ليرحم بها من عبد غير الله إذا استوفى منه حقوق الشركاء الذين يتبرءون منهم يوم القيامة فإذا استوفى حقوقهم بالعقوبة والانتقام رجع الأمر إليه على الانفراد وانقضت الأيام التي استوجب الشركاء فيها حقوقهم فلما انفرد ورجع الأمر إليه رحمهم فيما هو حق له بهذه الحجب التي ذكرناها لعلمه بما وضع وبأنه أنطق ألسنتهم بما قالوه وخلق في نفوسهم ما تخيلوه فسبحانه من حكم عدل لطيف خبير يفعل ما ينبغي كما ينبغي لما ينبغي لا إله إلا هو فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ
(التوحيد التاسع عشر)
من نفس الرحمن هو قوله وما أَرْسَلْنا من قَبْلِكَ من رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ هذا توحيد الاقتدار والتعريف وهو من توحيد الإنابة وهو توحيد عجيب ومثل هذا يسمى التعريض أي كذا فكن أنت مثل قوله ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ من قَبْلِكَ وجاء بالعبادة ولم يذكر الأعمال المعينة فإنه قال لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهاجاً وذلك تعيين الأعمال وهي التي ينتهي فيها مدة الحكم المعبر عنه بالنسخ في كلام علماء الشريعة وما ثم من الأعمال العامة السارية في كل نبوة إلا إقامة الدين والاجتماع عليه وكلمة التوحيد وهو قوله تعالى شَرَعَ لَكُمْ من الدِّينِ ما وَصَّى به نُوحاً والَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وما وَصَّيْنا به إِبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ وبوب البخاري على هذا باب ما جاء أن الأنبياء دينهم واحد وليس إلا التوحيد وإقامة الدين والعبادة ففي هذا اجتمعت الأنبياء عليه السلام واختصاص هذا الوحي بالأناية دل على أنه كلام إلهي بحذف الوسائط فما أوحي إليهم منهم فإنه لا يقول إنا إلا من هو متكلم فإن قيل فقد قال إنه ينزل بمثل هذا الملائكة فهذا لا يبعد أن تأخذه الرسل من وجهين إذا نزلت به الملائكة يكون على الحكاية كما قال
سمعت الناس ينتجعون غيثا *** فقلت لصيدح انتجعي بلالا
فرفع السين من الناس على الحكاية فلو كان هذا السامع انتجاعهم لنصب السين فهذا قوله أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ونزلت به الملائكة وإذا ورد مثل هذا معرى عن القرائن أو النص عليه حمل على ما هو الأصل عليه فما يقول أنا إلا المتكلم أ لا ترى ما ذكرناه في الحديث المتقدم إن الله يصدق عبده في موطن كما يحكي عنه في موطن فقال في التصديق إذا قال العبد لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه فقال لا إله إلا أنا وأنا أكبر فهو القائل بالأناية لا غيره وأما حكايته ما قال فهو قوله لا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنا بهذا اللفظ عينه فإن حكي على المعنى فمثل قوله عن فرعون يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً فإنه قالها بلسان القبط ووقعت الترجمة عنه باللسان العربي والمعنى واحد فهذه الحكاية على المعنى فهكذا فلتعرف الأمور إذا وردت حتى يعلم قول الله من قول ما يحكيه لفظا أو معنى كل إنسان بما هو عليه فقول الله وإِذْ أَخَذَ الله مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ من كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ به ولَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا وانتهى كلام الله ثم حكى معنى قولهم مترجما عنهم أَقْرَرْنا وكذلك قوله وإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا إلى هنا قول الله آمَنَّا حكاية وإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إلى هنا قول الله إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ حكاية فإذا ذكرت فاعلم بلسان من تذكر وإذا تلوت فاعلم بلسان من تتلو وما تتلو وعمن تترجم
(التوحيد العشرون)
من نفس الرحمن هو قوله وذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى في الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ من الظَّالِمِينَ هذا توحيد الغم وهو توحيد المخاطب وهو توحيد التنفيس كما نفس الرحمن عن محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بالأنصار
فقال إن نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن
فكانت الأنصار التي تكونت من ذلك النفس
الرحماني وهي كلمات الحق كما نفس الله عن يونس بالخروج من بطن الحوت فعامل قومه بما عاملهم به من كونه كشف عنهم العذاب بعد ما رأوه نازلا بهم فآمنوا أرضاه الله في أمته فنفعها إيمانها ولم يفعل ذلك مع أمة قبلها إذ كان غضبه لله ومن أجله وظنه بربه أنه لا يضيق عليه وكذلك فعل ففرج الله عنه بعد الضيق ليعلم قدر ما أنعم الله به عليه ذوقا كما قيل
أحلى من الأمن عند الخائف الوجل
فدل على أن يونس كان محبوبا لله حيث خص قومه من أجله بما لم يخص به أمة قبلها وعرفنا بذلك فقال فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ في الْحَياةِ الدُّنْيا ومَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ فأمد لهم في التمتع في مقابلة ما نالوه من الألم عند رؤية العذاب فإنه معلوم من النفوس الإنسانية أن ليالي الأنس والوصال قصار وإن كانت في نفس الأمر لها مدة طويلة وليالي الهجران والعذاب طوال وإن كانت في نفس الأمر قصارى كما ذكروا في تفسير أيام الدجال أنه أول يوم كسنة لشدة فجأة البلاء يطول عليهم ثم كشهر ثم كجمعة فإذا استصحبوه كان كسائر الأيام المعلومة التي لا يطولها حال ولا يقصرها حال وكما قيل في يوم القيامة إن مقداره خمسون ألف سنة لهول المطلع وما يرى الخلق فيه من الشدة وهو عند الآمنين الذين لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ في الامتداد كركعتي الفجر وأين زمان ركعتي الفجر من زمان خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فلما اشتد البلاء على قوم يونس وكانت اللحظة الزمانية عندهم في وقت رؤية العذاب كالسنة أو أطول ذكر أنه تعالى جعل في مقابلة هذا الطول الذي وجدوه في نفوسهم إن متعهم إلى حين فبقوا في نعيم الحياة الدنيا زمانا طويلا لم يكن يحصل لهم ذلك لو لا هذا البلاء فانظر ما أحسن إقامة الوزن في الأمور وقد قيل إن الحين الذي جعله غاية تمتعهم أنه القيامة والله أعلم ورأينا من رأى منهم رجلا رأينا أثر رجله في الساحل وكان أمامي بقليل فلم ألحقه فاكتلت طول قدمه في الرمل ثلاثة أشبار وثلثي شبر وكان من قوم يونس وبعث إلينا بكلام عن حوادث تحدث بالأندلس حيث كنا سنة خمس وثمانين وسنة ست وثمانين وخمسمائة فما ذكر شيئا إلا رأيناه وقع كما ذكر فانظر في هذه العناية الإلهية بهذا النبي وما جاء به من الاعتراف في توحيده
(التوحيد الحادي والعشرون)
من نفس الرحمن فَتَعالَى الله الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ هذا توحيد الحق وهو توحيد الهوية قال تعالى ما خَلَقْنَا السَّماواتِ والْأَرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ وهو قوله أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً فلا إله إلا هو من نعت الحق فالأمر الذي ظهر فيه وجود العالم هو الحق وما ظهر إلا في نفس الرحمن وهو العماء فهو الحق رب العرش الذي أعطاه الشكل الإحاطي لكونه بكل شيء محيطا فالأصل الذي ظهر فيه صور العالم بكل شيء من عالم الأجسام محيط وليس إلا الحق المخلوق به فكأنه لهذا القبول كالظرف يبرز منه وجود ما يحوي عليه طبقا عن طبق عينا بعد عين على الترتيب الحكمي فأبرز ما كان فيه غيبا ليشهده فيوحده مع صدوره عنه فيحار إن عدده فما ثم غيره وإن وحده فيرى إن عينه ليس هو فأوجد طرفين وواسطة لتميز الأعيان في العين الواحدة فتعددت الصور وما تعددت الخشبية ولا العودية فالعودية في كل صورة بحقيقتها من غير تبعيض وهذه الصورة ما هي هذه الصورة وليس ثم شيء زائد على العودية فقيل ما ثم شيء فقال وما خَلَقْنَا السَّماءَ والْأَرْضَ وما بَيْنَهُما باطِلًا ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ قيل فأين هو قال في عين التمييز فلا أقدر على إنكار التمييز ولا أقدر أثبت سوى عين واحدة ف لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ
(التوحيد الثاني والعشرون)
من نفس الرحمن هو قوله الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ هذا توحيد الخبء وهو من توحيد الهوية لما كان الخبء النباتي تخرجه الشمس من الأرض بما أودع الله فيها من الحرارة ومساعدة الماء بما أعطى الله فيه من الرطوبة فجمع بين الحرارة ومنفعل البرودة حتى لا تستقل الشمس بالفعل فظهرت الحياة في الحي العنصري وكان الهدهد دون الطير قد خصه الله بإدراك المياه كان يرى للماء السلطنة على بقية العناصر تعظيما لنفسه وحماية لمقامه حيث اختص بعلمه ليشهد له بالعلم بأشرف الأشياء حيث كان العرش المستوي عليه الرحمن على الماء فكان يحامي عن مقامه ووجد قوما يعبدون الشمس وهي على النقيض من طبع الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي وعلم أنه لو لا حرارة الشمس ما خرج هذا الخبء وأنها مساعدة للماء فأدركته العيرة في المنافر فوشى إلى سليمان عليه السلام بعابديها وزاد للتغليظ بقوله من دون الله ينبهه على موضع الغيرة والشمس وإن أخرجت خبء الأرض بحرارتها فهي تخبأ الكواكب
بإشراقها وتظهر المحسوسات الأرضية بشروقها فلها حالة الخبء والإظهار وبها حد الليل والنهار فزاحمت من يُخْرِجُ الْخَبْءَ في السَّماواتِ والْأَرْضِ ويَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ فابتلى الله الماء فأصبح غورا وابتلى الشمس فأمست آفلة ففجر العيون فأظهر خبء الماء وفارَ التَّنُّورُ فأظهر خبء الشمس فأخرج الخبء في السموات والأرض فوسع كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْماً فاستوى على العرش العظيم إذ حكم على فلك الشمس بدورته وعلى الماء باستقراره وجريته فهما في كل درجة في خبء وظهور فوحده الظهور بظهوره ووحده الخبء بسدل ستوره فعلم سبحانه ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ فهو الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
(التوحيد الثالث والعشرون)
من نفس الرحمن هو قوله وهُوَ الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ في الْأُولى والْآخِرَةِ ولَهُ الْحُكْمُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هذا توحيد الاختيار وهو من توحيد الهوية لما كان العالم كلمات الله تعالى كانت نسبة هذه الكلمات إلى النفس الرحماني الطاهرة فيه نسبة واحدة فكان يعطي هذا الدليل أنه لا يكون في العالم تفاضل ولا مختار بفضل عند الله على غيره ورأينا الأمر على غير هذا خرج في الوجود عاما في الموجودات فقال تعالى ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وحَمَلْناهُمْ في الْبَرِّ والْبَحْرِ ورَزَقْناهُمْ من الطَّيِّباتِ وفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا وقال تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وقال فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وقال ونُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ في الْأُكُلِ مع كونها يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ فما ثم آية أحق بما هو الوجود عليه من التفاضل من هذه الآية حيث قال يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ فظهر الاختلاف عن الواحد في الطعم بطريق المفاضلة والواقع من هذا كثير في القرآن من تفضيل كل جنس بعضه على بعض حتى القرآن وهو كلام الله يفضل على سائر الكتب المنزلة وهي كلام الله والقرآن نفسه يفضل بعضه على بعض مع نسبته إلى الله أنه كلامه بلا شك فآية الكرسي سيدة آي القرآن وهي قرآن وآية الدين قرآن فما أعجب هذا السر فعلمنا من هذا أن الحكمة التي يقتضيها النظر العقلي ليست بصحيحة وأن حكمة الله في الأمور هي الحكمة الصحيحة التي لا تعقل وإن كانت لا تعلم فما تجهل لكن لا تعين بمجرد فكر ولا نظر بل يُؤْتِي الْحِكْمَةَ من يَشاءُ ومن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ولقد رأيت في حين تقييدي لهذا التوحيد الذي يعطي التفاضل واقعة عجيبة أعطيت رقا منشورا عرضه فيما يعطي البصر ما يزيد على العشرين ذراعا وأما طوله فلا أحققه وهو على هذا الشكل المصور في الهامش وهو جلد واحد جلد كبش تنظره فتراه أبيض عند القراءة وتنظر إليه في غير قراءة فتراه أخضر فإذا قرأته تراه جلدا وإذا لم تقرأه تراه شقة لا أدري حريرا أو كتانا وهو صداق أهلي فيقال لي هذا صداق إلهي لأهلك ولا أسأل عن الزوج ولا أعلم أنها خرجت عن عصمة نكاحي وأنا فارح بهذا الأمر مسرور غاية السرور ثم يؤتى بسرقة حرير خضراء تنبعث من الكتاب كأنها منه تكونت فيها ألف دينار ذهبا عينا كل دينار ثقيل لا أدري ما وزنه فيقال قسمه على أهلها خمسة دنانير لكل شخص فأول ما آخذ أنا منها خمسة دنانير عليها نور ساطع أعظم من ضياء أضوأ كوكب في السماء له شعاع وأرى نفس ذلك الكتاب هو عين أهلي ما كتابها غيرها وأنا بكل جسمي راقد عليها متكئ فكنت أنظر إلى رقم ذلك الكتاب فأجده بخط زين الدين عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن المعروف بابن الأستاذ قاضي مدينة حلب كتبه عن إملاء القاضي الكبير بهاء الدين بن شداد والصداق من أوله إلى آخره مسجع الألفاظ تسجيعا واحدا على روى الراء المفتوحة والهاء فضبطت منه بعد البسملة الحمد لله الذي جعل قرآنه وفرقانه وتوراته وإنجيله وزبوره رقوم هذا الكتاب المكنون وسطوره وأودعه كل آية في الكتب وسورة وأظهره في الوجود في أحسن صوره وجعل إعلامه في العالم العلوي والسفلي مشهورة وآياته غير متناهية ولا محصورة وكلماته بكل لسان في كل زمان وغير زمان مذكوره هكذا على هذا الروي إلى آخره إن كان له آخر بخط مثل الذر فلما رددت إلى حسي وجدتني أكتب
هذا الفصل من فصول التوحيد وإذا به توحيد الاختيار فعلمت أن ذلك عين هذا الفصل وأن لأهلي من هذا الفصل أوفر حظ وأعظم نصيب فلما رأينا التفاضل والاختيار وقع في العالم حتى في الأذكار الإلهية المشروعة كما ذكرنا علمنا إن ثم أمرا معقولا ما هو عين النفس ولا هو غير النفس الذي تتكون فيه الكلمات وهي أعيان الكائنات فإذا بذلك عين المشيئة فيها ظهر هذا التفضيل في الواحد والتفضيل في المتساوي والواحد لا يتصف بالتفضيل والمتساوي لا ينعت بالتفضيل فعلمنا أن سر الله مجهول لا يعلمه إلا هو فوجدناه توحيد الاختيار في حضرة السر لا إله إلا هو له الحمد في الأولى وهو حمد الإجمال والآخرة وهو حمد التفصيل فتميزت المحامد في العين الواحدة فكان حمدها عينها فما أعجب مقام هذا التوحيد لمن شاهده وتعجبت من اسم أهلي في الواقعة واسمها مريم ومعنى هذا الاسم معلوم في اللسان الذي فيه سميت وهي محررة لله حاملة لروح الله محل لكلمة الله مثنى عليها بكلام الله مبرأة بشهادة ما سقط من التمر في هزها جذع النخلة اليابس ونطق ابنها في المهد بأنه عبد الله وهما شاهدان عدلان عند الله فكانت كلها لله وبالله وعن الله ولهذا غبطها زكريا نبي الله فتمنى مثلها على الله فأعطاه يحيى حصورا مثلها لم يجعل له سميا من قبل من أنبياء الله فخصه بالأولية من أسماء الله فانظر في بركة هذا الاسم في وجود الله بين عباد الله فهذا ما كان إلا من اختيار الله ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ بل هي لله والله فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ
(التوحيد الرابع والعشرون)
من نفس الرحمن هو قوله ولا تَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ هذا توحيد الحكم بالتوحيد الذي إليه رجوع الكثرة إذ كان عينها وهو توحيد الهوية فنهى كونه أن يدعو مع الله إلها فنكر المنهي عنه إذ لم يكن ثم إذ لو كان ثم لتعين ولو تعين لم يتنكر فدل على أنه من دعا مع الله إلها آخر فقد نفخ في غير ضرم واستسمن ذا ورم وكان دعاؤه لحما علي وضم ليس له متعلق يتعين ولا حق يتضح ويتبين فكان مدلول دعائه العدم المحض فلم يبق إلا من له الوجود المحض فكل شيء يتخيل فيه أنه شيء فهو هالك في عين شيئيته عن نسبة الألوهية إليه لا عن شيئيته فوجه الحق باق وهو ذُو الْجَلالِ والْإِكْرامِ والآلاء الجسام فما دعا من دعا إلا إلى معروف فما هو الذي نكر فما هو عين ما ذكر فالحق الخالص من كان في ذاته يعلم فلا يجهل ويجهل فلا يحاط به علما فعلم من حيث إنه لا يحاط به علما وجهل من حيث إنه لا يحاط به علما فعلم من حيث جهل فالعلم به عين الجهل به فما ثم من يقبل الأضداد في وصفه إلا الله
(التوحيد الخامس والعشرون)
من نفس الرحمن هو قوله هَلْ من خالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ من السَّماءِ والْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ هذا توحيد العلة وهو من توحيد الهوية لو لم يوحد بالعلة كما يوحد بغيرهما لم يكن إلها لأن من شأن الإله أن لا يخرج عنه وجود شيء إذ لو خرج عنه لم يكن له حكم فيه وقد قال وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فلا بد أن يكون له توحيد العلة وهو أن يعبد بهذا التوحيد لسبب لكون العابد في أصل كونه مفتقرا إلى سبب فلم يخرج عن حقيقته وسببه رزقه الذي به بقاء عينه فتخيله المحجوب في الأسباب الموضوعة وهو تخيل صحيح أنه في الأسباب الموضوعة لكن بحكم الجعل لا بحكم ذاتها فجاعل كونها رزقا هو الله الذي يَرْزُقُكُمْ من السَّماءِ بما ينزل منها من أرزاق الأرواح والْأَرْضِ بما يخرج منها من أرزاق الأجسام فهو الرازق الذي بيده هذا الرزق غير أن الحجب لما أرسلها الله على بعض أبصار عباد الله ولم يدركوا إلا مسمى الرزق لا مسمى الرازق قالوا هذا فقيل لهم ما هو هذا هو في هذا مجعول من الذي خلقكم فكما خلقكم هو رزقكم فلا تعدلوا به ما هو له ومنه فأنتم ومن اعتمد تم عليه سواء فلا تعتمدوا على أمثالكم فتعتمدوا على الكثرة والاعتماد على الكثرة يؤدي إلى عدم حصول ما وقع فيه الاعتماد إذ كل واحد من الكثيرين يقول غيري يقوم له بذلك فلا يقوم له شيء فيدعوه الحال الصحيح إلى التفرغ والتجرد إلى واحد على علم من ذلك الواحد أنه تجرد إليه وتفرغ مما سواه فتعين القيام به عليه فادى إلى حصول المطلوب من وراء حجاب في حق قوم وعلى الشهود والكشف في حق آخرين وهم أهل الله وخاصته
(التوحيد السادس والعشرون)
من نفس الرحمن هو قوله إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ هذا توحيد التعجب وهو توحيد الله لا توحيد الهوية فقوله يَسْتَكْبِرُونَ أي يستعظمون ذلك ويتعجبون منه كيف يصح في الكون لا إله إلا الله والشيء لا يكون إلا على صورة
واحدة وعين واحدة والصور كثيرة مختلفة بالحد والحقيقة وبيدها المنع والعطاء وذلك لله أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أي الكثرة في عين الواحد ما سَمِعْنا بِهذا في آبائِنَا الْأَوَّلِينَ فما أنكروه ولا ردوه بل استعظموه واستكبروه وتعجبوا كيف تكون الأشياء شيئا واحدا واستكبروا مثل هذا الكلام من مثل هذا الشخص حيث علموا أنه منهم وما شاهد إلا ما شاهدوه فمن أين له هذا الذي ادعاه فحجبهم الحس عن معرفة النفس والاختصاص الإلهي فامتثلوا أمر الله من حيث لا يشعرون لأنه الآمر عباده بالاعتبار وهو التعجب فقال إِنَّ في ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ وقال فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاعتبروا كما أمروا فهم من أولي الأبصار وقولهم إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ لما جاءهم التعريف بهذا على يدي واحد منهم ولم يعرفوا العناية الإلهية والاختصاص الرباني والاختلاق لم يكن فيما تعجبوا منه لأنه لو أحالوه بالكلية ما تعجبوا وإنما نسبوا الاختلاق لمن جاء به إذ كان من جنسهم ومما يجوز عليه ذلك حتى يتبين لهم برؤية الآيات فيعلمون أنه ما اختلق هذا الرسول وأنه جاءه من عند الله الذي عبد هؤلاء هذه المسماة آلهة عندهم على جهة القربة إلى الله الكبير المتعالي فأنزلوهم بمنزلة الحجة للملك وأعطوهم اسمه كما يعطي اسم الولاية لكل وال وإن كان الوالي هو الله فالولاة كثيرون فكأنه أخبرهم عن الله أنه ما ولي هؤلاء الذي يعبدون بل آباؤكم نصبوهم آلهة هذا الإله الذي أدعوكم إليه تعرفونه وأنه اسمه الله لا تنكرونه وأنتم القائلون ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى فسميتموه فسموا آلهتكم فتعرفوا عند ذلك الأمر الحق بيد من هو هل هو بأيديكم أو بيدي يقول الرسول فلما عرفوا قوله وتحققوه علموا أنهم في فضيحة لأنهم إذا سموهم لم يسموهم الله ولا عقلوا من أسمائهم مسمى الله فإنهم عارفون بأسمائهم فقالوا مثل ما قال قوم إبراهيم لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فتلك الحجة الإلهية عليهم منهم فما حاجهم إلا بهم وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ
(التوحيد السابع والعشرون)
من نفس الرحمن هو قوله ذلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ هذا توحيد الإشارة فما في الكون مشار إليه إلا هو فَأَنَّى تُصْرَفُونَ لأن الإشارة لا تقع من المشير إلا لأمر حادث عنده وإن لم يكن في عينه في نفس الأمر حادثا ولكنه يعلم أنه حدث عنده وما يحدث أمر عند من يحدث عنده إلا ولا بد أن يجهل أمره عند ما يحدث عنده لشغله بحدوثه عنده وأثره فيه فيشير إليه في ذلك الوقت وفي تلك الحالة رفيقه وهو على نوعين إذ ما له رفيق سوى اثنين إما عقله السليم وإما شرعه المعصوم وما ثم إلا هذا لأنه ما ثم من يقول له في هذه الإشارة ذلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إلا أحد هذين القرينين إما العقل السليم أو الشرع المعصوم وما عدا هذين فإنه يقول له خلاف ما قال هذان القرينان فيقول له هذا الدهر وتصرفه ويقول الآخر هذه الطبيعة وأحكامها ويقول الآخر هذا حكم الدور فيصرفه كل قائل إلى ما يراه فهو قول هذين القرينين فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ف فَيُضِلُّ الله من يَشاءُ ويَهْدِي من يَشاءُ بالقرآن وما يُضِلُّ به إِلَّا الْفاسِقِينَ الخارجين عن حكم هذين القرينين والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ
(التوحيد الثامن والعشرون)
من نفس الرحمن هو قوله شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ هذا توحيد الصيرورة وهو من توحيد الهوية وهو على الحقيقة مقام الايمان لأن المؤمن من اعتدل في حقه الخوف والرجاء واستوت فيهما قدماه فلم يحكم فضله في عدله ولا عدله في فضله فكما تجلى في شديد العقاب تجلى في الطول الأعم المؤيد بغافر الذنب وقابل التوب ولم يجعل للشديد العقاب مؤيدا وذلك للدعوى في الشدة فوكل إلى ما ادعاه فهو غير معان ومن لم يدع فهو معان فإنها ولاية في الخلق ولأنه جاء بالشدة في العقاب ولم يجيء في الطول مثل هذه الصفة فلهذا شدد أزره بغافر الذنب وقابل التوب فأشار إلى ذوي الأفهام من عباده بإعانة ذي الطول بغافر الذنب وقابل التوب على الشديد العقاب إلى ترك الدعوى فإن الشديد في زعمه أنه لا يقاوم ولو علم أن ثم من يقاومه ما ادعى ذلك فنبه تعالى عباده على ترك الدعوى فيكون الحق يتولى أمورهم بنفسه وعصمهم في حركاتهم وسكناتهم ليقفوا عند ذلك ويعلموا أنه الحق
(التوحيد التاسع والعشرون)
من نفس الرحمن هو قوله ذلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ هذا توحيد الفضل وهو من توحيد الهوية لأنه جاء بعد قوله إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
فيكون هذا التوحيد شكرا لما تفضل به الله على الناس مع قوله لَخَلْقُ السَّماواتِ والْأَرْضِ أَكْبَرُ من خَلْقِ النَّاسِ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أراد في المنزلة فإن الجرم يعلمه كل أحد ولكن ما تفطن الناس لقوله تعالى أَكْبَرُ من خَلْقِ النَّاسِ من كونهم ناسا ولم يقل أكبر من آدم ولا من الخلفاء فإنه ما خلق على الصورة من كونه من الناس إذ لو كان كذلك لما فضل الناس بعضهم بعضا ولا فضلت الرسل بعضهم بعضا ففضل الصورة لا يقاومها فضل فقوله لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ إذ كان الفاضل ممن له أيضا هذا الاسم والمراد بالفضل العام والخاص فوحده بلسان العموم والخصوص فظهر توحيد الفضل من حضرة الكرم والبذل
(التوحيد الثلاثون)
من نفس الرحمن هو قوله هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هذا توحيد الحياة وهو توحيد الكل وهو من توحيد الهوية الخالصة والحياة شرط في كل متنفس فلهذا هذا العالم حي بما فيه من الأبخرة الصاعدة منه فتوحيد الحياة توحيد الكل فإنه ما ثم إلا حي فإنه ما ثم إلا الحق وهو المسبح نفسه بما أعطى الرحمن في نفسه من الكلام الإلهي فقال سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ فَسُبْحانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وحِينَ تُصْبِحُونَ وما ثم إلا العالم وما من شيء من العالم إلا وهو مسبح بحمده ولا ثناء أكمل من الثناء بالأحدية فإن فيها عدم المشاركة فالتوحيد أفضل ثناء وهو لا إله إلا الله فلهذا قلنا إنه توحيد الحياة وتوحيد الكل وهو إخلاص التوحيد لله من الله ومن العالم
(التوحيد الحادي والثلاثون)
من نفس الرحمن هو قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي ويُمِيتُ رَبُّكُمْ ورَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ هذا توحيد البركة لأنه في السورة التي ذكر فيها أنه أنزله في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وهي لَيْلَةُ الْقَدْرِ الموافقة ليلة النصف من شعبان المخصوصة بالآجال ولهذا نعت هذا التوحيد بأنه يُحْيِي ويُمِيتُ وهو قوله فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي محكم فتظهر الحكم فيه التي جاءت بها الرسل الإلهيون ونطقت بها الكتب الإلهية رحمة بعباد الله عامة وخاصة فكل موجود يدركها وما كل موجود يعلم من أين صدرت فهي عامة الحكم خاصة العلم إذ كانت الاستعدادات من القوابل مختلفة فأين نور الشمس من نور السراج في الإضاءة ومع هذا فأخذ الشمس من السراج اسمه وافتقر إليه مع كونه أضوأ منه وجعل نبيه في هذا المقام
سراجا منيرا وبه ضرب الله المثل في نوره الذي أنار به السموات والأرض فمثل صفته بصفة المصباح ثم ذكر ما أوقع به التشبيه مما ليس في الشمس من الإمداد والاعتدال مع وجود الاختلاف بذكر الشجرة من التشاجر الموجود في العالم لاختلاف الألسنة والألوان التي جعل الله فيها من الآيات في خلقه وذكر المشكاة وما هي للشمس فلنور السموات والأرض الذي هو نور الله مشكاة يعرفها من وحده بهذا التوحيد المبارك الذي هو توحيد البركة وفي هذه المشكاة مصباح وهو عين النور الذي تحفظه هذه المشكاة من اختلاف الأهواء وحكمها فيما يقع في السرج من الحركة والاضطراب وإذا تقوت الأهواء أدى إلى طفئ السرج كذلك يغيب الحق بين المتنازعين ويخفى ويحصل فيه الحيرة لما نزلت ليلة القدر تلاحا رجلان فارتفعت فإنها لا تقبل التنازع ولما كانت الأنبياء لا تأتي إلا بالحق وهو النور المبين لذلك
قال عليه السلام عند نبي لا ينبغي تنازع
فلا ينازع من عنده نور ثم إن لهذا المصباح الذي ضرب به المثل زجاجة فللنور الإلهي زجاجة يعرفك هذا التوحيد ما هي تلك الزجاجة وليس ذلك للشمس والزجاجة تشبه الكوكب الدري فإذا كان المحل الذي ظهر فيه المصباح مشبه بالكوكب الدري الذي هو الشمس فكيف يكون قدر السراج في المنزلة وهو صاحب المنزل ثم قال في هذا السراج إنه اسْتَوْقَدَ أي يتوقد ويضيء من شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ فلا بد للنور الإلهي من حقيقة بها يقع التشبيه بالشجرة كما جاء في اختلاف الأسماء الإلهية من الضار النافع والمعز المذل والمحيي المميت وأسماء التقابل ثم إن هذه الشجرة لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ فوصفها بالاعتدال فلهذا كان السراج المذكور الذي وقع به التشبيه هو السراج الذي في المشكاة والزجاجة فيكون محفوظا عن الحركة والاضطراب لكون الشجرة لا شرقية ولا غربية فهذا كله لا يوجد في غير السراج ولا بد أن يعتبر هذا كله في النور الإلهي
(التوحيد الثاني والثلاثون)
من نفس الرحمن هو قوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الله واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ ومَثْواكُمْ هذا توحيد الذكرى وهو توحيد الله فاعلم أن الإنسان لما جبله الله على الغفلات رحمة به فيغفل
عن توحيد الله بما يطالعه في كل حين من مشاهدة الأسباب التي يظهر التكوين عندها وليس ثمة إدراك يشهد به عين وجه الحق في الأسباب التي يكون عنها التكوين وهو لاستيلاء الغفلة وهذا الغطاء يتخيل أن التكوين من عين الأسباب فإذا جاءته الذكرى على أي وجه جاءته علم بمجيئها إنها تدل لذاتها على أنه لا إله إلا الله وأن تلك الأسباب لو لا وجه الأمر الإلهي فيها أو هي عين الأمر الإلهي ما تكون عنها شيء أصلا فلما كان هذا التوحيد بعد ستر رفعته الذكرى أنتج له أن يسأل ستر الله للمؤمنين والمؤمنات فإن لرفع الستر ووجود الكشف عند الرفع أو العلم بأنه عين الستر لا غيره لذة لا يقدر قدرها فهي من منن الله على عبده
(التوحيد الثالث والثلاثون)
من نفس الرحمن هو قوله هُوَ الله الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ والشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ هذا توحيد العلم وهو من توحيد الهوية وهو توحيده من حيث التفرقة لأنه ميز بين الغيب والشهادة وجمع بين العلم والرحمة وهذا لا يكون إلا في العلم اللدني وهو العلم الذي ينفع صاحبه قال في عبده خضر آتَيْناهُ رَحْمَةً من عِنْدِنا وهو قوله الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ثم قال وعَلَّمْناهُ من لَدُنَّا عِلْماً من قوله عالِمُ الْغَيْبِ والشَّهادَةِ فعلم الرحمة يكون معه اللين والعطف وهو الذي من لدنه والغصن اللدن هو الرطيب ويُؤْتِ من لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً فعظمه وما أَرْسَلْناكَ وما أرسل إلا بالعلم إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فجعل إرساله رحمة فهو علم يعطي السعادة في لين فَبِما رَحْمَةٍ من الله لِنْتَ لَهُمْ فالعلم وإن كان شريفا فإن له معادن أشرفها ما يكون من لدنه فإن الرحمة مقرونة به ولها النفس الذي ينفس الله به عن عباده ما يكون من الشدة فيهم
(التوحيد الرابع والثلاثون)
من نفس الرحمن هو قوله هُوَ الله الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ هذا توحيد النعوت وهو من توحيد الهوية المحيطة فله النعوت كلها نعوت الجلال فإن صفات التنزيه لا تعطي الثبوت والأمر وجودي ثابت فلهذا قدم الهوية وأخرها حتى إذا جاءت نعوت السلب وحصلت الحيرة في قلب السامع منعت الهوية بإحاطتها أن يخرج السامع إلى العدم فيقول فما ثم شيء وجودي إذ قد خرج عن وجود العقل والحس فيلحقه بالعدم فتمنعه الهوية فإن الضمير لا بد أن يعود على أمر مقرر فافهم
(التوحيد الخامس والثلاثون)
من نفس الرحمن هو قوله الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ هذا توحيد الرزايا والرجوع فيها إلى الله ليزول عنه ألمها إذ رأى ما أصيب فيه قد حصل بيد من يحفظ عليه وجوده ولهذا أثنى الله على من يقول إذا أصابته مصيبة إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فهم لله في حالهم وهم إليه راجعون عند مفارقة الحال فمن حفظ عليه وجوده وحفظ عليه ما ذهب منه وكان ما حصل عنده أمانة إلى وقتها فما أصيب ولا رزئ فتوحيد الرزايا أنفع دواء يستعمل ولذلك أخبر بما لهم منه تعالى في ذلك فقال أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ من رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ والرحمة لا يكون معها ألم وأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ يقول الذين تبين لهم الأمر على ما هو عليه في نفسه فسمين مصيبة في حقه لنزولها به وفي حق من ليس له هذا الذوق لنزول ألمها في قلبه فيتسخط فيحرم خيرها
(التوحيد السادس والثلاثون)
من نفس الرحمن هو قوله رَبُّ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا هذا توحيد الوكالة وهو من توحيد الهوية في هذا التوحيد ملك الله العالم الإنساني جميع ما خلقه له من منافعه وأمره أن يوكل الله في ذلك ليتفرغ الإنسان لما خلق له من عبادة ربه في قوله وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وأين هذا المقام من قوله وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فجعل الإنفاق بأيديهم والملك لله وفي هذا القدر الذي أمرهم به من الإنفاق فيه أمرهم أن يتخذوه وكيلا فلا تنافر بين المقامين فالملك لله والإنفاق للعبد بحث الأمر وما أطلق له في ذلك وفي الإنفاق أمر الله أن يوكل الله في ذلك لعلمه بمواضع الإنفاق والمصارف التي ترضي رب المال في الإنفاق فنزل الشرائع أبانت له مصارف المال فأنفق على بصيرة بنظر الوكيل فمن أنفق فيما لم يأمره الوكيل بالإنفاق فيه فعلى المنفق قيمة ما استهلك من مال من استخلفه فيه ولا شيء له فإنه مفلس بحكم الأصل فلا حكم عليه فأعطاه هذا التوحيد رفع الحكم عنه فيما أتلف من مال من استخلفه وهذا آخر تهليل ورد في القرن الذي وصل إلينا وهو ستة وثلاثون مقاما قد ذكرناها بكمالها مبينة إلهية قرآنية ذكر الله بها نفسه وأمرنا أن نذكره بها فامتثلنا فلما ذكرناه بها علمنا من لدنه علما وكان ذكرها رحمة
منه بنا فهذا قد أدينا العشر الواجب علينا مكملا فوقع في يد الحق فيتولى تربيته إلى وقت اللقاء ورد الأمانات إلى أهلها والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ
(الفصل العاشر في الذكر بالحوقلة)
وهو قول لا حول ولا قوة إلا بالله وهو ذكر كل حامل بقدر ما حمل فالذاكرون به على طبقات كما أنهم في الصورة على طبقات فمن كان أكثر دخولا كان أكثر دؤبا على هذا الذكر والذي حاز الكمال فيها كان شرطه أن لا يفتر من هذا الذكر بالقول كما أنه لا يفتر عنه بشاهد الحال وهو كل مكلف في العالم والعالم كله مكلف وما كلف به من العالم ومن العالم ما هو مجبور فيما كلف حمله وهو المعبر عنه بفرائض الأعيان وفرائض الكفاية ما لم يقم واحد به فيسقط الفرض عن الباقي ومن العالم ما لم يجير في الحمل وإنما عرض عليه فإن قبله فما قبله إلا لجهله بقدر ما حمل من ذلك كالإنسان لما عرضت عليه الأمانة وحملها كانَ لذلك ظَلُوماً لنفسه جَهُولًا بقدرها والسموات والأرض والجبال لما عرضت عليهن أبين أَنْ يَحْمِلْنَها وأَشْفَقْنَ مِنْها لمعرفتهن بقدر ما حملوا فلم يظلموا أنفسهم ولكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فما وصف أحد من المخلوقات بظلمه لنفسه إلا الإنسان فكان خلق السموات والأرض أَكْبَرُ من خَلْقِ النَّاسِ في المنزلة فإنهن كن أعلم بقدر الأمانة من الإنسان فبهذا كن أيضا أكبر من خلق الناس في المنزلة من العلم فإنهن ما وصفن بالجهل كما وصف الإنسان وكذلك لما أمرنا بالإتيان أمر وجوب فإن لم يجبن جيء بهن على كره ف قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ لعلمهن بأن الذي أمرهن قادر على الإتيان بهن على كره منهن فقلن أتينا طائعين فالإتيان حاصل والطوع في معرض الاحتمال أن يكن صدقن في دعواهن فإن كان الحق القائل فما كذبا بل صدقا وإن كان القول بالواسطة فيحتمل ما قلناه فالعالم منا إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله يقولها على امتثال الأمر الإلهي والاقتداء فالاقتداء قوله وإياك نستعين إذا كان الحق المتكلم وهي الاستعانة بالأسباب التي لا يمكن رفعها ولا وجود المسبب إلا بوجودها والأمر قوله اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ واصْبِرُوا على حمل هذه المشقات بلا حول ولا قوة إلا بالله انتهى الجزء العشرون ومائة
( (بسم الله الرحمن الرحيم))
(الفصل الحادي عشر في الاسم الإلهي) البديع
وتوجهه على كل مبدع وعلى إيجاد العقل الأول وهو القلم وتوجهه على إيجاد الهمزة من الحروف ومراتبها وتوجهه على إيجاد الشرطين من المنازل وتوجهه بالإمداد الإلهي النفسي بفتح الفاء الذاتي منه والزائد وسبب زيادته
![]() |
![]() |




