
كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار
للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
![]() |
![]() |
شعر
بينا أن أسير ومركبي يسير
في عصبة من قومي في ليلتي ويومي
يمضون كالأجادل في الحرب كالبواسل
أنا المطاع فيهم في كل ما يليهم
فسرت خمسا عوما وبعد خمس يوم
حتى وردت أرضا ما قد ترام عرضا
من بلد البحرين عند طلوع العين
فجئتهم نهارا ألتمس المغارا
حتى إذا كان السحر من بعد ما غاب القمر
إذا أنا بعير بقوها حقير
موفورة متاعا مقبلة سراع
فصلت بالسّنان مع سادة فتيان
فسقتها جميعا أحثّها سريع
أريد رمل عالج أنعج بالعناعج
أسير في الليالي خرقا بعيدا خالي
وقد لقينا تعبا وبعد ذاك نصبا
حتى إذا هبطنا من بعد ما علون
عنت لنا سدانه قد كان فيها عانه
فرمتها بقوسي في مهمه كالترس
حتى إذا ما أمعنت في القفر ثم درمت
وردت قصرا منهلا في جوفه طام خلا
وعنده خيمة في جوفها نعيمة
غريرة كالشمس فاقت جميع الإنس
نعجت مهري عندها حتى وقفت معه
حيّيت ثم ردّت في لطف وحيّت
فقلت يا لعوب والطفلة العروب
هل عندكم قراء إذ نحن بالعراء
قالت نعم برحب في لطف وقرب
اربع هنا عتيدا ولا تكن بعيدا
حتى يجيك عامر مثل الهلال الزاهر
فعجت عن قريب في باطن الكثيب
حتى رأيت عامرا يحمل ليثا حادر
على عتيق سابح كمثل طرف اللامح
قال: وكان الحجاج متكئا فاستوى جالسا، ثم قال: ويحك دعني من السجع والرجز وخذ في الحديث، قال: نعم أيها الأمير، ثم نزل فربط فرسه وجمع حجارة، وأوقد عليه نارا، وشقّ عن بطن الأسد، وألقى مراقه في النار، وجعلت أصلح الله الأمير أسمع للحم الأسد تشديدا، فقالت له نعيمة: قد جاءنا ضيف وأنت في الصيد، قال: فما فعل؟ فقالت:
ها هو ذاك بظهر الخيمة، فأومت إليّ فأتيتها، فإذا أنا بغلام أمرد كأن وجهه دائرة القمر، فربط فرسي إلى جنب فرسه، ودعاني إلى طعامه فلم أمتنع من أكل لحم الأسد لشدة الجوع، فأكلت أنا ونعيمة منه بعضه، وأتى الغلام على آخره، ثم مال إلى زقّ فيه خمر فشرب وسقاني، فشربت ثم شرب الغلام حتى أتى على آخره. فبينما نحن كذلك إذ سمعنا وقع حوافر خيل أصحابي، فقمت وركبت فرسي، وتناولت رمحي، وسرت معهم، ثم قلت: يا غلام، خلّ عن الجارية ولك ما سواها، فقال: ويحك احفظ الممالحة. قلت: ل بد من الجارية. فالتفت إليها وقال لها: قفي وانظري فعلي في هؤلاء اللئام. ثم قال: يا فتيان، هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس؟ فبرز إليه رجل من أصحابي، فقال له الغلام: من أنت؟ فلست أقاتل إلا كفؤا. قال: أنا عاصم بن كلبة السعديّ، فشدّ عليه وأنشأ يقول:
إنك ي عاصم بي لجاهل إذ رمت أمرا أنت عنه ناكل
إني كميّ في الحروب بازل ليث إذا اصطك الليوث باسل
ضرّاب هامات العدا منازل قتال أقران الوغى مقاتل
قال: ثم طعنه طعنة فقتله، ثم قال: يا فتيان، هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس؟ فتقدم إليه آخر من أصحابي فقال له الغلام: من أنت؟ قال: أنا صابر بن حرقة السعدي، فشدّ عليه، وأنشأ يقول:
إنك و الإله لست صابرا على سنان يجذب المقادرا
ومنصل مثل الشهاب باترا في كفّ قرن يمنع الحرائر
إني إذا ما رمت أن أقاسرا يكون قرني في الحروب باترا
ثم طعنه طعنة فقتله، ثم قال: هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس؟ فلما رأيت ذلك هالني أمره، وأشفقت على أصحابي، فقلت: احملوا عليه حملة رجل واحد، فلما رأى ذلك أنشأ يقول:
الآن طاب الموت ثم طابا إذ تطلبون رخصه كعابا
ولا نريد بعدها عتابا فدونها الطعن مع الضراب
فركبت نعيمة فرسها، وأخذت رمحها ووقفت، فما زال يجادلنا ونعيمة حتى قتل من عشرين رجلا، فأشفقت على أصحابي، فقلت: يا عامر، بحق الممالحة يا غلام قد قبلن العافية، ثم قال: ما كان أحسن هذا لو كان أولا، وتركنا وسالمنا. ثم قلت: ي عامر، بحق الممالحة من أنت؟ قال: عامر بن حرقة الطائي وهذه ابنة عمي، ونحن في هذه البرية منذ زمان ودهر، ما مرّ بنا أنسي غيركم، فقلت: من أين طعامكم؟ قال: من حشرات الطير والوحش والسباع، قلت: من أين شرابكم؟ قال: الخمر، أجلبها من بلاد البحرين كل عام مرة أو مرتين، قلت: إن معي مائة من الإبل موفورة متاعا، فخذ منه حاجتك، قال: لا حاجة لي فيها، ولو أردت ذلك لكنت أقدر عليه، فارتحلنا عنهم منصرفين. قال الحجاج:
الآن طاب قتلك يا عدو الله لغدرك بالفتى، قال: قد كان خروجي على الأمير أصلحه الله أعظم من ذلك، فإن عفا عني الأمير رجوت أن لا يؤاخذني بغيره، فأطلقه ووصله إلى بلاده. قلت: وهذا عامر بن حرقة الطائي منا، وربما قد ذكرته في بعض قصائدي مع المشاهير من أجدادي في المفاخرة.
ولنا في هذا الباب شعر:
أشدّ على قاسي اللجام سناني فيكرع من حوض الدماء سناني
فأروي به من حوض كل غشمشم يحمي قرونته ليوم طعان
فيرجع ريّانا وقد كان يانعا كما عاد مبيضّا لأحمر قاني
حتى إذا ضاق المجال على فتى ضربت على رأس الحسام بناني
وجرّدته من غمده وكسوته غمدا من الهامات والأبدان
وحدثني بعض الأدباء، عن الحجاج بن يوسف الثقفي أنه قال: قعد الحجاج يوما في سكرة له فيها جماعة من الناس من جملتهم حميد الأرقط، وكان شاعرا، فقام وأنشد قصيدة يصف فيها الحرب، فقال له الحجاج: أما القول فقد أجدته، وإني سائلك يا حميد عمّ ذا يسأل الأمير؟ قال: هل قاتلت قط؟ قال: لا أيها الأمير إلا في النوم، فقال له: فكيف كانت وقعتك؟ قال: انتبهت وأنا منهزم وقلت:
يقول لي الأمير بغير جرم تقدّم حين جدّ بنا المراسي
وما لي أن أطعتك من حياة وما لي غير هذا الرأس راسي
قيل لبعضهم: ما لك لا تغزو؟ قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي، فكيف أذهب إليه ركضا؟
![]() |
![]() |