الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


184. الموقف الرابع والثمانون بعد المائة

قال تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾[الأنفال: 8/ 23].

يعني لو تميز للعلم الذاتي، الذي هو العلم الفعلي، وهو علم حضرة الله، أوّل التعينات، خير من حقائقهم، التي هم عليها واستعداداتهم، التي لا يجرون إلاَّ إليها، وهي الحاصلة بالفيض الأقدس، لأسمعهم خلق فيهم ولهم سماع الهداية، وهو ما يحصل بالفيض المقدّس، ولو على سبيل فرض المحال، وهو غير واقع، وإنما هذا إخبار بأنَّ شرّهم إنما جاءهم من استعدادهم، وأنه لا يقبل إلاَّ ما أعطاه تعالى ممّ طلبه بلسان استعداده، فلا يسمعهم ولا يخلق فيهم هداية ورشاداً، لأنه خلاف المعلوم، ولو أسمعهم ما قبلوا من حيث أن استعدادهم بالضدّ من ذلك، وإنما كان الأمر هكذا لأن العلم تابع للمعلوم، وهو وإن كان تابعاً للمعلوم، يقال فيه " علم فعلي" إذ المعلوم ما تحقّق إلاَّ به، فلا يخلق إلاَّ ما أراد، ولا يريد إلاَّ ما علم، والمعلوم لا يتغيّر، وبهذا كانت الحجة له تعالى على مخلوقاته. فمن وجد خيراً فليحمد الله، فإنه الخالق لذلك، وهو أهل لأن يحمد على كل حال، ومن وجد شرّاً فلا يلومن إلاَّ نفسه، كما ورد في الصحيح، يعني نفسه التي هي حقيقته واستعداده، فاستعداد كلّ أحد هو الذي يكون عليه، وهو الذي ييسره الله تعالى وإليه أشار (صلى الله عليه وسلم) كما ورد في الصحيح: ((كلّ ميسر لما خلق له)).

فلا يعطي تعالى أحداً شيئاً إلاَّ ما أعطاه استعداده، ولا يمنعه إلاَّ ما امتنع منه استعداده، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر، فلو أسمعهم وأعطاهم خلاف استعدادهم، فرضاً وتقديراً لتولوّا وهم معرضون عنه، هاربون منه، لأنه ضد حقيقتهم وقلب لها، وانقلاب الحقائق محال. فانظر ما أجلى هذه الآية، لمن علّمه الله ـ تعالى الحقائق، وانظر ماذا صار فيها من الخبط عند علماء الظاهر، لانحجابهم بعقولهم ومعقولهم. ومنهم، من قال إنها (أعني "لو") للدلالة على انتفاء الأول لانتفاء الثاني. ومنهم من قال إنها لدلالة العدم على العدم، كما في قوله: ولو لم يخف الله لم يعصه، لا للدلالة على انتفاء الثاني، بسبب انتفاء الأول، ومنهم من قال: إنها تفيد الاستلزام. فإنَّ قوله: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾[الأنفال: 8/ 23].

يقتضي نفي الخير، أي ما علم منهم خيراً ولا أسمعهم، وقوله: (ولو أسمعهم) يقتضي حصول الخير أي: أسمعهم، وأنَّهم ما تولّوا، وعدم التولي خير من الخيرات، إلى غير ذلك من الأقوال.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!