الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


132. الموقف الثاني والثلاثون بعد المائة

قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾[الحديد: 4]

اعلم أن "الهو" في أصل الوضع اللساني كناية عن غائب، يمكن أن يصير شهادة يوماً ما في حال ما، وأمَّا هنا فهو كناية عن البطون الذاتي، الذي يستحيل أن يصير شهادة لمخلوق ما، وفي حال ما دنيا وآخرة، فهو الغيب المطلق، الذي لا يشار إليه بإشارة إذ كل مشار إليه ذو جهة، ولا يعبّر عنه بعبارة تقيّده أو تميّزه، أو تحصره. ومع هذا فكل مشار إليه هو. وكل معبر عنه هو. فهو الغيب والشهادة. و المعيّة في أصل الوضع اللساني تطلق على مصاحبة شيئين مستقلّين بالوجودية، كزيد مع عمرو، ولا تطلق على الجوهر والعرض، إذ العرض لا استقلال له بالوجودية، لأن قيامه بالجوهر صفة نفسية له، فحدّه، ما لو وجد، لكان في موضوع. فل يقال زيد مع البياض ولا مع الحركة. كذا، لا يقال: علم زيد معه. والمعيّة هنا معيّة وجود مع عدم، فالوجود ليس إلاَّ تعالى ، أصدق كلمة قالها الشاعر:

ألا كل شّيء ما خّلا الله باطل

و الباطل عدم، وإن كل ما سوى الحقّ يوصف بالوجود فهو مجاز، فإنه وجود خيالي. فليس الوجود الحقيقي إلاَّ له تعالى ، وكل ما سواه يصح نفي الوجود عنه، كما هو حقيقة النسب المجازية. فلولا معية الحق تعالى بذاته، التي هي عين وجوده، ما صح نسبة مخلوق إلى الوجود، ولا وقع عليه إدراك حسي ولا عقلي، فمعيته تعالى هي الحافظة على الموجودات نسبة الوجود، بل هي عين وجدانِها. وهذه المعيّة عامة لكل موجود من جليل وحقير، وكبير وصغير، فهي القيوميّة التي قام بها كل شيء، وهي محض الوجود الذي به كل شيء موجود. فمعيته إذا بذاته وهي المعبر عنها بالهويّة السارية من غير سريان ولا حلول، ولا اتحاد، ولا امتزاج، ولا انحلال، لأن هذه المذكورات تقال على وجودين، كما هو عند العموم. وليس عندنا إلاَّ وجود واحد قديم منّزه عن قيام الحوادث به وقيامه بالحوادث. ومن قال معيّته تعالى بعلمه، كم هو الرأي المشهور عند الجمهور، فإن أرادوا بذلك تنزيه الذات عن معيّة المخلوقات، فمعلوم أن ما ثبت في النزاهة للذات هو ثابت للصفات. وإن أرادوا أن الذات حقيقة أحدية ل تتجزأ ولا تتبعّض، والموجودات متعددة، فكذلك العلم حقيقة واحدة لا يتجزأ ول يتبعّض. والذي يزعم العلم، مع جهله بما به يعلم، فهو بالمعلوم أجهل. وإذا سمعت من عارف، أو رأيت في كلامه: أن معيّته تعالى بالعلم، فلا يعني العلم الذي يعنيه المتكلمون، وإنما يعني شيئاً آخر، فيبهمون الأمر على المخالف المشاغب. قال شيخ العارفين محي الدين: القول بأنَّ معيته تعالى مع كل شيء بالعلم أقرب إلى الأدب، والقول بأنَّ معيته بالذات أقرب إلى التحقيق. يريد بالأدب عند المحجوب وعلى زعمه، أو أعمّ من حيث أنه ليس كل حقّ يقال، ولا كل ما يعلم يقال، وهذه المعية. هي مثل قوله:

﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[سبأ: 34/ 47].

وقوله: ﴿وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ﴾[البروج: 85/20].

وقوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾[البقرة: 2/ 115].

أي ذاته، إذ الوجه عبارة عن الذات، ولفظ الآية يؤكد ما قلنا ويرفع احتمال غيره، كما في قولك: جاء زيد نفسه، وجهه، عينه. وله تعالى معيّة خاصّة بخاصّة العامة، وهي معيّة الإمداد بمكارم الأوصاف وجميل الأخلاق، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾[النحل: 16 128].

وقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[البقرة: 2/153]. [الأنفال: 8/ 46].

وقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((إنَّ الله مع القاضي مالم يجر)). أو كما قال.

ونحو ذلك مما ورد في الأخبار الإلهية و النبويّة، وماهي إلاَّ ظهور بعض كمالات الوجود في البعض دون البعض. وله تعالى أيضاً معيّة خاصّة بخاصة الخاصة، وهي للرسل و الأنبياء ومن كان من ورثتهم (صلى الله عليه وسلم) أجمعين وليس إلاَّ غلبة أحكام الوجود والوجوب و القدم، على أحكام الإمكان، من حدوث وعدم، كقوله تعالى لموسى وهارون: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾[طه: 20/46].

أي أسمع بكما وارى بكما، لأن معيّتي غلبت عليكما. وإنما أنا لا أنتما، إلاَّ من حيث الصورة فقط. وهذا المقام معروف عند القوم (رضوان الله عليهم) بقرب الفرائض، فهو ظهور الربّ وبطون العبد. وصاحب هذا المقام إذا نودي بيا فلان، يقول الحق نيابة عنه: لبّيك. وهو أعلى من قرب النوافل. فإن صاحب هذا المقام، إذا نادى مناد وقال: يا الله، يقول هذا العبد: لبّيك، نيابة عن الحق تعالى . ومعيّة الحق تعالى مع كل شيء ثابتة. وليس معه تعالى شيء، لأن معيّته ثابتة بالنص، ومعية كل شيء معه ضمناً، إذ من كان معك فأنت معه. ومع هذا لا تقول: أنا معه، فإنه ما ورد.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!