الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
الباب: | فى معرفة مقام المعرفة |
الصفحة 306 - من الجزء الثاني (عرض الصورة)الدلالة إلا بتجل إلهي لقلبه من اسمه النور فإذا انصبغ باطنه بذلك النور صدقه فذلك نور الايمان وغيره لم يحصل عنده من ذلك النور شيء مع علمه بأنه صادق من حيث الدلالة لا من حيث النور المقذوف في القلب فجحد مع علمه وهو قوله تعالى وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُوًّا ودونهم في هذه الرتبة من قيل فيه وأضله الله على علم فذلك نور العلم به لا نور الايمان فلما صدقه من صدقه وأظهر صدقه واعتمد على عقله حيث قاده إلى الحق ولم يحصل له ضوء من نور الايمان يستضيء به وما علم أنه بذلك النور صدقه لا بنور علمه الذي هو عند من جحده مع علمه بصدق دعواه فلما اعتمد على عقله هذا المصدق وجاء آخر من المصدقين به أيضا كشف الله له عن نور إيمانه ونور علمه فكان نورا على نور وجاء ثالث ما عنده من نور العلم النظري شيء ولا يعرف موضع الدلالة من تلك الآية المعجزة وقذف الله في قلبه نور الايمان فآمن وصدق وليس معه نور علم نظري ولكن فطرة سليمة وعقل قابل وهيكل منور بعيد من استعمال الفكر فسارع في القبول فقعد هؤلاء الثلاثة الأصناف بين يدي هذا الرسول الذي صدقوه فأخذ الرسول يصف لهم مرسله الحق تعالى ليعرفهم به المعرفة التي ليست عندهم مما كانوا قد أحالوا مثل ذلك على الحق تعالى وسلبه عنه أهل الأدلة النظرية وأثبتوا تلك الصفات للمحدثات دلالة على حدوثها فلما سمعوا ما تنكره الأدلة العقلية النظرية وترده افترقوا عند ذلك على فرق فمنهم من ارتد على عقبه وشك في دليله الذي دله على صدقه وأقام له في ذلك الدليل شبهات قادحة فيه صرفته عن الايمان والعلم به فارتد على عقبه ومنهم من قال إن في جمعنا هذا من ليس عنده سوى نور الايمان ولا يدري ما العلم ولا ما طريقه وهذا الرسول لا نشك في صدقه وفي حكمته ومن الحكمة مراعاة الأضعف فخاطب هذا الرسول بهذه الصفات التي نسبها إلى ربه أنه عليها هذا الضعيف الذي لا نظر له في الأدلة وليس عنده سوى نور الايمان رحمة به لأنه لا ينبت له الايمان إلا بمثل هذا الوصف وللحق أن يصف نفسه بما شاء على قدر عقل القابل وإن كان في نفسه على خلاف ذلك واتكل هذا المخبر بهذا الوصف والمراعي حق هذا الأضعف على ما يعرفه من علمنا به وتحققه من صدقنا فيه ووقوفنا مع دليلنا فلا يقدح شيء من هذا فيما عندنا إذ قد عرفنا مقصود هذا الرسول بالأمر فثبتوا على إيمانهم مع كونهم أحالوا ما وصف الرسول به ربه في أنفسهم وأقروه حكمة واستجلابا للأضعف وفرقة أخرى من الحاضرين قالوا هذا الوصف يخالف الأدلة ونحن على يقين من صدق هذا المخبر وغايتنا في معرفتنا بالله سلب ما نسبناه لحدوثها فهذا أعلم بالله منا في هذه النسبة فنؤمن بها تصديقا له ونكل علم ذلك إليه وإلى الله فإن الايمان بهذا اللفظ ما يضرنا ونسبة هذا الوصف إليه تعالى مجهولة عندنا لأن ذاته مجهولة من طريق الصفات الثبوتية والسلب فما يعول عليه والجهل بالله هو الأصل فالجهل بنسبة ما وصف الحق نفسه به في كتابه أعظم فلنسلم ولنؤمن على علمه بما قاله عن نفسه وفرقة أخرى من الحاضرين قالوا لا نشك في دلالتنا على صدق هذا المخبر وقد آتانا في نعت الله الذي أرسله إلينا بأمور إن وقفنا عند ظاهرها وحملناها عليه تعالى كما نحملها على نفوسنا أدى إلى حدوثه وزال كونه إلها وقد ثبت فننظر هل لها مصرف في اللسان الذي جاء به فإن الرسول ما أرسل إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ فنظروا أبوابا مما يؤول إليها ذلك الوصف مما يقتضي التنزيه وينفي التشبيه فحملوا تلك الألفاظ على ذلك التأويل فإذا قيل لهم في ذلك أي شيء دعاكم إلى ذلك قالوا أمر أن القدح في الأدلة فإنا بالأدلة العقلية أثبتنا صدق دعواه ولا نقبل ما يقدح في الدلالة العقلية فإن ذلك قدح في الدلالة على صدقه والأمر الآخر قد قال لنا هذا الصادق إن الله الذي أرسله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ووافق الأدلة العقلية فتقوى صدقه عندنا بمثل هذا فإن قلنا ما قاله في الله على الوجه الذي يعطيه ظاهر اللفظ ونحمله عليه كما نحمله على المحدثات ضللنا فأخذنا في التأويل إثباتا للطريقين وفرقة أخرى وهي أضعف الفرق لم يتعدوا حضرة الخيال وما عندهم علم بتجريد المعاني ولا بغوامض الأسرار ولا علموا معنى قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ولا قوله وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وهم واقفون في جميع أمورهم مع الخيال وفي قلوبهم نور الايمان والتصديق وعندهم جهل باللسان فحملوا الأمر على ظاهره ولم يردوا علمه إلى الله فيه فاعتقدوا نسبة ذلك النعت إلى الله مثل نسبته إلى نفوسهم وما بعد هذه الطائفة طائفة في الضعف أكثر منها فإنهم على نصف الايمان حيث |
|
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |