الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


من استنصر ببسم الله الرحمن الرحيم

روينا من حديث الدنهوري قال: حدثنا إبراهيم بن سهلويه، عن عبد الله بن عبد الوهاب، عن نافع عن ابن عمر قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتذكرون فضائل القرآن. فقائل منهم خاتمة سورة البقرة، وقائل خاتمة بني إسرائيل، وقائل كهيعص، و طه. وأكثروا في القول، وفي القوم عمرو بن معدي كرب الزبيدي في ناحية إذ قال: ي أمير المؤمنين، فأين أنتم من عجيبة بسم الله الرحمن الرحيم؟ فو الله إنّ في بسم الله الرحمن الرحيم لعجيبة من العجب.

فاستوى عمر جالسا وكان متكئا، وكان يعجبه حديث عمرو فقال له: يا أبا ثور، حدّثنا بعجيبة بسم الله الرحمن الرحيم. فقال: يا أمير المؤمنين، إنه أصابنا في الجاهلية مجاعة شديدة، فاقتحمت بفرسي البرية أطلب شيئا، فو الله ما أصبت إلا بيض النعام، وإن فرسي لتلتئم من فناء البرية. فبينما أنا كذلك، إذ رفعت لي خيمة وماشية، فأتيت الخيمة فإذا بجارية كأحسن البشر، وإذا بفناء الخيمة شيخ متكئ، فقلت لما داخلني من هول الجارية ومن ألم الجوع: استأسر، ثكلتك أمك. فقال: يا هذا، إن أردت القرى فانزل، وإن أردت معونة أعنّاك. فقلت: استأثر ثكلتك أمك. فقال لي مثل قوله الأول، و نهض نهوض شيخ لا يقدر على القيام، فدنا مني وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم جذبني إليه فإذا أنا تحته وهو فوقي، فقال: أقتلك أم أخلّي عنك؟ فقلت: بل خلّ عني. فنهض عني وهو يقول:

عرضن عليك النزل منا تكرّما فلا ترعوي جهلا كفعل الأشائم

وجئت بعدوان وظلم ودون ما تمنيته في البيض حرّ الغلاصم

فقلت في نفسي: يا عمرو، أنت فارس العرب للموت أهون من الهرب من هذا الشيخ الضعيف، فدعتني نفسي إلى معاودته ثانية، وأنشأت أقول:

رويدك ل تعجل بليت بصارم سليل المعالي هزبريّ قماقم

لئن ذلّ عمرو ثم ذلّ عجيبة ولم يك يوما للبراز بحاجم

طمعت لما منّتك نفسك تسلمن سقتك المنايا كأسها بالصرائم

فما لك بدل دون نفسك تسلمن هنالك أو تصبر لحزّ الغلاصم

فم دون ما تقواه للنفس مطمع سوى أن أجزّ الرأس منك بصارم

ثم قلت له: استأسر ثكلتك أمك، فدنا مني وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم جذبني جذبة مثلت تحته، فاستوى على صدري وقال: أقتلك أم أخلّي عنك؟ فقلت: بل خلّ عني. فنهض وهو يقول:

ببسم الله والرحمن فزنا قديما والرحيم به قهرنا

وهل تغني جلادة ذي حفاظ إذا يوما لمعركة نزلن

وهل شيء يقوم لذكر ربي وقدما بالمسيح هناك عذنا

سأقصم كل ذي جنّ وإنس إذا يوما لمعضلة حللن

فعاودتني نفسي، فقلت: استأسر ثكلتك أمك. فدنا مني وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فملئت منه رعبا يا أمير المؤمنين، وكنا لا نعرف مع اللات والعزّى شيئا.

ثم دن مني وجذبني جذبة فصرت تحته، فقلت: خلّ عني. فقال: هيهات! بعد ثلاث مرات ما أن بفاعل، ثم قال: يا جارية، ائتني بشفرة، فأتت بها، فجزّ ناصيتي، ثم نهض وهو يقول:

مننّ على عمرو فعاد لحينه وثنّى فثنينا فساء وما فعل

وفي اسم ذي الآلاء عزّ ورفعة ومحترز لو كان سامعه عقل

وكنا يا أمير المؤمنين إذا جزّت نواصينا استحينا أن نرجع إلى أهلنا حتى تنبت، فرضيت أن أخدمه حولا. فلما حال الحول قال: يا عمرو، إني أريد أن تنطلق معي إلى البرّية وما بي من وجل، وإني لواثق ببسم الله الرحمن الرحيم، فانطلقت معه حتى أتى واديا فهتف بأهله ببسم الله الرحمن الرحيم فلم يبق طائر في وكره إلا طار، ثم هتف الثانية فلم يبق سبع في مربضه إلا نهض، ثم هتف الثالثة فإذا هو بأسود كالنخلة السحوق، وإذا هو لابس شعرا فرعبت، فقال الشيخ: لا ترع يا عمرو إذا نحن اصطرعنا، فتلا عليه صاحبي:

بسم الله الرحمن الرحيم، قال: فاصطرعا. فقلت: عليه باللاّت والعزّى، فلطمني لطمة كاد يقلع رأسي، فقلت له: لست بعائد، فاصطرعا، فقلت: عليه ببسم الله الرحمن الرحيم، قال: فعلاه الشيخ فبعجه كما تبعج الفرس، وشق بطنه واستخرج منه كهيئة القنديل الأسود. فقال لي: يا عمرو هذا غشه وكفره، فقلت له: فداك أبي وأمي ما لك ولهذ القوم؟ فقال: يا عمرو، إن الجارية التي رأيتها في الخباء هي الفارعة بنت المسور، و كان رجلا من الجنّ، وكان مؤاخيا لي، وكان على دين المسيح عليه السلام، وهؤلاء قومها يغزوني كل سنة منهم رجل فينصرني الله عليه ببسم الله الرحمن الرحيم. فانطلقنا

حتى أمعنّا في البرية، قال: يا عمرو، قد رأيت ما كان مني وأنا جائع فالتمس لي شيئ آكله، فالتمست فما وجدت له إلا بيض النعام، فأتيته وهو نائم، وقد توسد إحدى يديه، وتحته سيفه وهو سيف طوله سبعة أشبار، وعرضه أقلّ من شبرين، وهو الصمصامة، فاستخرجت سيفه من تحته فضربته ضربة قطعت منه الساقين، فقال: يا غدّار م أغدرك. فلم أزل أضربه حتى قطعته إربا إربا. فغضب عمرو رضي الله عنه وقال: وأن أقول كما قال العبد: ظفر بك رجل من المسلمين، فأنعم عليك ثلاث مرات ووجدته نائم فقتلته. والله لو كنت مؤاخذك في الإسلام بما فعلت في الجاهلية لقتلتك به.

ثم أنش عمر يقول:

إذا قتلت أخا في السلم تظلمه أفّ لما جئته في سالف الحقب

الحرّ يأنف مما أنت تفعله تبّا لما جئته في العجم والعرب

لو كنت آخذ في الإسلام ما فعلت في الجاهلية أهل الشرك والصلب

إذا لنالتك من عدلي مشطبة يدعى لذائقها بالويل والحرب

ثم قال: ما كان من حديثه يا عمرو، قال: فأتيت الخيمة فاستقبلتني الجارية فقالت:

يا عمرو، ما فعل الشيخ؟ قلت: قتله الحبشيّ، قالت: كذبت، قتلته أنت يا غدّار، ثم دخلت الخيمة فجعلت تبكي وتقول:

عين جودي لفارس مغوار فاندبيه بواكفات غزار

سبع وهو ذو وفاء وعهد ورئيس الفخار يوم الفخار

لهف نفسي على بقائك يا عم‍ رو وأسلمته والحماة للأقدار

بعد ما جزّ ما به كنت تسمو في زبيد ومعشر الكفّار

ولعمري لو رمته أنت حقا رمت منه كصارم بتّار

فجزاك المليك سوءا وهونا عشت منه بذلّة وصغار

قال: فدخلت الخيمة أريد قتلها فلم أر أحدا كأنّ الأرض قد ابتلعتها، فاقتلعت الخيمة، وسقت الماشية حتى أتيت بها قومي بني زبيد.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!