الفتوحات المكية

الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[الباب الثالث والتسعون ومائتان في معرفة منزل سبب وجود عالم الشهادة وسبب ظهور عالم الغيب من الحضرة الموسوية]

و قال في الباب الثالث والتسعين: ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] . اعلم أن للّه تعالى جودا مطلقا وجودا مقيدا وهذه الآية من الجود المطلق وأما المقيد فهو قوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلىٰ نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ [الأنعام:54] . أي: أوجب وفرض على نفسه الرحمة لقوم خواص نعتهم بعمل خاص وهو قوله: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهٰالَةٍ ثُمَّ تٰابَ مِنْ بَعْدِهِ وأَصْلَحَ [الأنعام: 54] فهذا جود مقيد بالوجوب لمن هذه صفته، وهو عوض عن هذا العمل الخاص ولا يخفى أن التوبة والإصلاح من الجود المطلق فقابل جوده بجوده فما حكم عليه سبحانه سواه ولا قيده غيره. قال: وحكي عن سهل بن عبد اللّه عالمنا وإمامنا أنه قال: لقيت إبليس فعرفته، وعرف مني أني عرفته فوقعت بيننا مناظرة فقال لي وقلت له، وعلا بيننا الكلام وطال النزاع بحيث أنه وقف ووقفت وحار وحرت فكان من آخر ما قال لي: يا سهل إن اللّه تعالى يقول: ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] ، فعمم ولا يخفى عليك أنني شيء بلا شك لأن لفظة كل تقتضي الإحاطة والعموم وشيء أنكر النكرات قد وسعتني رحمته قال سهل: فو اللّه لقد أخرسني، وحيرني بلطافة.

سياقه وظفره بمثل هذه الآية، وفهمه منها ما لم أفهم وعلمه من دلالتها ما لم أعلم، فبقيت حائرا متفكرا وأخذت أتلو الآية في نفسي فلما جئت إلى قوله تعالى: فَسَأَكْتُبُهٰا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 156] . الآية. سررت وظننت أني قد ظفرت بحجة وظهرت عليه بما يقصم ظهره فقلت له: يا ملعون إن اللّه تعالى قد قيدها بنعوت مخصوصة تخرجها من ذلك العموم  فقال: فَسَأَكْتُبُهٰا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 156 ] . إلى آخر النسق فتبسم إبليس وقال: واللّه يا سهل ما كنت أظن أن يبلغ بك الجهل بصفات اللّه تعالى هذا المبلغ ولا ظننت أنك ههنا ليتك سكت ليتك سكت ليتك سكت ألست تعلم يا سهل أن التقييد صفتك لا صفته تعالى قال سهل: فرجعت إلى نفسي، وغصصت بريقي وأقام الماء في حلقي وو اللّه ما وجدت له جوابا، ولا سددت في وجهه بابا وعلمت أنه طمع في مطمع وانصرفت، وانصرف وو اللّه ما أدري بعد هذا ما يكون فإن اللّه تعالى ما نص بما يرفع هذا الإشكال فبقي الأمر عندي على المشيئة منه في خلقه لا أحكم عليه في ذلك إلا بما حكم به على نفسه من حيث وجوب الإيمان به انتهى كلام 341 سهل. قال الشيخ محيي الدين: واعلم رحمك اللّه أني تتبعت ما حكى عن إبليس فما رأيت أقصر منه حجة، ولا أجهل منه بين العلماء فلما وقفت له على هذه المسألة التي حكاها عنه سهل بن عبد اللّه تعجبت وعلمت أنه قد علم علما لا جهل فيه فهو أستاذ سهل في ذلك واللّه أعلم وقال في قوله تعالى: وجَعَلَ اَلشَّمْسَ سِرٰاجاً [نوح: 26 ] اعلم أن النور المنبسط على الأرض الذي هو من شعاع الشمس الساري في الهواء ليس له حقيقة وجودية إلا بنور البصر المدرك لذلك فإذا اجتمعت العينان عين الشمس وعين البصر استنارت المبصرات وقيل: قد انبسطت الشمس عليها ولذلك يزول ذلك الإشراق بوجود السحاب الحائل لأن العين فارقت العين الأخرى بوجود السحاب قال: وهي مسألة في غاية الغموض لأني أقول: لو أن الشمس في جو السماء وما في العالم عين تبصر من حيوان ما كان لها شعاع ينبسط في الأرض أصلا فإن نور كل مخلوق مقصور على ذاته لا يستنير له غيره فبوجود أبصارنا ووجود الشمس ظهر النور المنبسط قال: ولا يخفى أن الحرباء يظهر لونها بحسب ما تنقلب فيه من خضرة، وحمرة، وغيرها، ولا وجود لتلك الألوان في جمعها فقد أدركت يا أخي ما لا وجود له حقيقة بل نسبة وكذلك النور المنبسط على الأرض قال: ومن هنا يعلم أن العالم مدرك للّه في حال عدمه فهو معدوم العين مدرك للّه يراه فيوجده لنفوذ الاقتدار الإلهي فيه.

(قلت) : وهذا كلام دقيق غوره بعيد فليتأمل ويحرر واللّه أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!