[49] - [أن العالم واحد بالجوهر كثير بالصورة]
واعلم أن العالم واحد بالجوهر كثير بالصورة وإذا كان واحدا بالجوهر فإنه لا يستحيل وكذلك الصورة أيضا لا تستحيل لما يؤدي إليه من قلب الحقائق فالحرارة لا تكون برودة واليبوسة لا تكون رطوبة والبياض لا يستحيل سوادا والتثليث لا يصير تربيعا لكن الحار قد يوجد بارد إلا في زمان كونه حارا وكذلك البارد قد يوجد حار إلا في زمان كونه باردا وكذلك الأبيض قد يكون أسود بمثل ما ذكرنا والمثلث قد يكون مربعا فبطلت الاستحالة فالأرض والماء والهواء والأفلاك والمولدات صور في الجوهر فصور تخلع عليه فيسمى بها من حيث هيأة وهو الكون وصور تخلع عنه فيزول عنه بزوالها ذلك الاسم وهو الفساد فما في الكون استحالة يكون المفهوم منها أن عين الشيء استحال عينا آخر إنما هو كما ذكرنا والعالم في كل زمان فرد يتكون ويفسد ولا بقاء لعين جوهر العالم لو لا قبول التكوين فيه فالعالم يفتقر على الدوام أما افتقار الصور فلبروزها من العدم إلى الوجود وأما افتقار الجوهر فلحفظ الوجود عليه إذ من شرط وجوده وجود تكوين ما هو موضوع له لا بد من ذلك وكذلك حكم الممكن القائم بنفسه الذي لا يتحيز هو موضوع لما يحمله من الصفات الروحانية والإدراكات التي لا بقاء لعينه إلا بها وهي تتجدد عليه تجدد الأعراض في الأجسام وصورة الجسم عرض في الجوهر وأما الحدود إنما محلها الصور فهي المحدودة ولا بد أن يوجد في حدها الجوهر الذي تظهر فيه وبهذا القدر يسمون الصور جوهرا لكونهم يأخذون الجوهر في حد الصورة وبالجملة فالنظر في هذه الأمور من غير طريق الكشف الإلهي لا يوصل إلى حقيقة الأمر على ما هي عليه لا جرم أنهم لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ولهذا عدلت الطائفة السعيدة المؤيدة بروح القدس إلى التجرد عن أفكارها والتخلص عن قيد قواها واتصلت بالنور الأعظم فعاينت الأمر على ما هو عليه في نفسه إذ كان الحق عز وجل بصرها فلم تشاهد إلا حقا كما قال الصديق ما رأيت شيئا أ لا رأيت الله قبله فيرى الحق ثم يرى أثره في الكون وهو الوقوف على كيفية الصدور فكأنه عاين الممكنات في حال ثبوتها عند ما رش على ما رش منها من نوره الأعظم فاتصفت بالوجود بعد ما كانت تنعت بالعدم فمن هذا مقامه فقد ارتفع عنه غطاء العمي والحيرة فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ... إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ فما جعل العلم إلا في الشهود فالحاكم يحكم بغلبة ظنه والشاهد يشهد بعلم لا بظن ثم اعلم أن أجسام العالم تنقسم إلى لطيف وكثيف وشفاف وكدر ومظلم ومنور وإلى كبير وصغير وإلى مرئي وغير مرئي فالوجود كله عطاء
ليس عند الله منع *** كل ما منه عطاء
فإذا ما قيل منع *** لم يكن الا عطاء
فإنا ما بين شيئين *** غطاء ووطاء
وأنا لكل ما في *** الكون من خير وعاء