الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

«حضرة الخفض»

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[23] - «حضرة الخفض»

إن التواضع حكم ليس يعرفه *** إلا العلي الذي لله يخفضه‏

تنزل الحق إكراما إلى درج *** به يحزئه به يبعضه‏

يقسم الخلق في تعيين رتبته *** قسم يحببه وقسم يبغضه‏

إن الذي خفض الأكوان أجمعها *** عن المقام الذي بما يخفضه‏

رفعت همته نحو العلى عسى *** يوما على غلظ يكون تنهضه‏

أبرمت أمرا وفي الإبرام حاجته *** فجاء في الحال للحرمان ينقضه‏

إني جعلت له في قلب ذي أدب *** حبا وجاء سفير الحال يبغضه‏

صفر اليدين أتاك اليوم يسألكم *** قرضا يضاعفه من أنت تقرضه‏

وقلت يا منتهى الآمال أجمعها *** عساك يوما على خير تحرضه‏

عرفته بالذي يأتيه من كتب *** عساه يوما يراه الحق يرفضه‏

فيدعي صاحبها في الملإ الأعلى عبد الخافض‏

[إن الوجود قد انقسم في ذاته إلى ما له أول وإلى ما لا أول له‏]

فاعلم إن الوجود قد انقسم في ذاته إلى ما له أول وهو الحادث وإلى ما لا أول له وهو القديم فالقديم منه هو الذي له التقدم ومن له التقدم له الرفعة والحدوث له التأخر ومن تأخر فله الانخفاض عن الرفعة التي يستحقها القديم لتقدمه فإن المتقدم له التصرف في الحضرات كلها لأنه لا منازع له يقابله ولا يزاحمه ويرى المراتب فيأخذ الرفيع منها والحادث ليس له ذلك التصرف في المراتب فإنه يرى القديم قد تقدمه في الوجود وتصرف وحاز مقام الرفعة وما نزل عنه فهو خفض فلم يكن له تصرف إلا في حضرة الخفض فإذا أراد الحق أن يتصرف فيها تصرف المحدث ينزل إليها فإذا نزل إليها حكم عليه بأحكامها فإذا ارتفع عنها بعد هذا النزول هو المسمى بهذا الارتفاع الخاص متكبرا فقوله الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ بالرفعة الأولى المتكبر بالرفعة بعد النزول فحضرة الخفض سلطانها في المحدث كان المحدث ما كان وإنما قلنا كان المحدث ما كان من أجل صور التجلي فإنها محدثة ومن أجل إتيان الذكر الذي هو القرآن كلام الله فإنه محدث الإتيان قال تعالى ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ وليس إلا القرآن وقد حدث عندهم بإتيانه فلذلك قلنا كان الحادث ما كان فمن هذه الحضرة يكون حكم الخافض والمخفوض أ لا ترى إلى حروف الخفض هي الخافضة والحرف في أدنى الدرجات ومع ذلك فلها أثر الخفض في الأسماء مع علو درجة الأسماء فتقول أعوذ بالله فالباء خافضة ومعمولها الهاء من كلمة الله فهي التي خفضت الهاء من الكلمة فأثرت في الكلمة بحقيقتها وإن كانت الأسماء أعلى في الرتبة منها فالعالم وإن كان في مقام الخفض ورتبته رتبة الخفض فإنه بعضه لبعضه كأداة الخفض في اللسان لا يخفض المتكلم الكلمة إلا بها كذلك ما لا يفعله الحق من الأشياء إلا بوساطة الأشياء ولا يمكن غير ذلك فلا بد من حقيقته هذا أن ينزل إلى رتبة الخفض ليتصرف في أدوات الخفض بحسب ما هي عليه تلك الأدوات من الأحكام وهي كثيرة كأداة الباء على اختلاف مراتبها وهي في كل ذلك لا تعطي إلا الخفض فلها رتبة القسم ورتبة الاستعانة ورتبة التبعيض والتأكيد والنيابة مناب الغير وكذلك من وإلى وفي وجميع أدوات الخفض لها صور في التجلي فتظهر بحكم واحد وعين واحدة في مراتب كثيرة فمن على كل حال حكمها الخفض وذاتها معلومة فهي لا تتغير في الحكم ولا في العين وهي لابتداء الغاية خرجت من الدار وتكون للتبعيض أكلت من الرغيف وتكون للتبيين شربت من الماء فما تغير لها عين ولا حكم في الخفض ثم إنه إذا دخل بعضها على بعض صير المدخول عليه فيها اسما وزال عنه حكم الحرفية فيرجع خفضه بالإضافة كسائر الأسماء المضافة وأبقى عليه بناءه حتى لا يتغير عن صورته قال لشاعر

من عن يمين الحبيا نظرة قبل‏

أراد جهة اليمين فدخلت من على عن فصيرتها بمعنى الجهة وأخرجتها عن الحرفية فمعقول من عين عن واليمين كما قلنا مضافة إلى عن ولم يظهر في عن عمل الخفض في الظاهر لأنها بالأصالة خافضة والخافض لا يكون مخفوضا فهي هنا مخفوضة المعنى غير مخفوضة الصورة لما هي عليه من البناء مثل لِلَّهِ الْأَمْرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ وكذلك قول الشاعر وهو كثير في اللسان وهذا العمل في هذا الطريق إذا أثر المحدث في المحدث لم يزله أثره فيه عن أن يكون محدثا والحدوث له بمنزلة البناء للحرف والأثر فيه للمؤثر ولا مؤثر إلا الله فهذا خلق ظهر بصورة حق فانفعل المنفعل لصورة الحق لا للخلق فقد تلبس في الفعل الخلق بالحق في الإيجاد وتلبس الحق بالخلق في الصورة التي ظهر عنها الأثر في الشاهد كما ظهر عقلا عن الحق هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ والإشارة إلى الأسماء الإلهية هنا وإن كان المراد الزوجات تفسيرا

فإن قلت هذا الحق أظهرت غائبا *** وإن قلت هذا الخلق أخفيته فيه‏

فلو لا وجود الحق ما بان كائن *** ولو لا وجود الخلق ما كنت تخفيه‏

فمن حضرة الخفض ظهر الحق في صورة الخلق‏

فقال كنت سمعه وبصره‏

الحديث وقال تعالى فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله وقال من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله كما قال فيه وما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى‏ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ فلو لا حكم النسب وتحقيق النسب ما كان للأسباب عين ولا ظهر عندها أثر وأنت تعلم أن استناد أكثر العالم إلى الأسباب فلو لا إن الله عندها ما استند مخلوق إليها فإنا لم نشاهد أثرا إلا منها ولا عقلناه إلا عندها فمن الناس من قال بها ولا بد ومن الناس من قال عندها ولا بد ونحن ومن شاهد ما شاهدنا نقول بالأمرين معا عندها عقلا وبها شهودا وحسا كما قدمنا في الاقتدار والقبول فذلك هو الأصل الذي يرجع إليه الأمر كله فاعبده وتوكل عليه فهل طلب منك ما ليس لك فيه تعمل وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فلا بد من حقيقة هنا تعطي الإضافة في العمل إليك مع كونه خلقا لله تعالى كما قال والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ أي وخلق ما تعملون وأهل الإشارة جعلوا هنا ما نافية فالعمل لك والخلق لله فما أضاف إليه تعالى عين ما أضافه إليك إلا لتعلم إن الأمر الواحد له وجوه فمن حيث ما هو عمل أضافه إليك ويجازيك عليه ومن حيث ما هو خلق هو لله تعالى وبين الخلق والعمل فرقان في المعنى واللفظ فلا تحجب عن معرفة هذا فإنه لطيف خفي والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!