
كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار
للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
![]() |
![]() |
واقعة لبعض الفقراء
حدثني عبد الله ابن الأستاذ المروزي بإشبيلية بالخفاقين بدار محمد اليشكري الناسخ قال: كنت بجاية في خدمة شيخنا أبي مدين، فقال له أبو طالب: أخبرني عن سر حياتك. فقال أبو مدين: بسر حياته ظهرت حياتي، وبنور صفاته استنارت صفاتي، وفي توحيده أفنيت همتي، وبديمومته دامت محبتي. فسر التوحيد في قوله: لا إله إلا الله. أنا و الوجود بأسره حرف جاء لمعنى. فبالمعاني ظهرت الحروف، وبصفاته اتصف كل موصوف، و بائتلافه ائتلف كل مألوف. فمصنوعاته محكمة، ومخلوقاته مسلمة، لأنه
صانعه و مظهرها، منه مبدأها، وإليه مرجعها، كما أظهرها ذرّا. ثم تلا: لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى . هو يا أبا طالب لوجوده المحرك، والناطق الممسك، إن نظرت يا أبا طالب بالحقيقة تلاشت الخليقة، الوجود به قائم، وأمره في مملكته دائم، وحكمه في وجوده عام. حكم الأرواح في الأجسام، فالحواس به بانت على اختلاف أنواعها، اللسان منها للبيان، وهو مع ذلك لا يشغله شأن عن شأن.يا أب طالب، لما أمدّني بسره غرف فؤادي من بحره، فامتلأ وجودي نورا، وأثمر غيبة و حضورا، وسقيت شرابا طهورا، ففني ما كان باطلا وزورا، فغشيت أنواره أخلاقي، و نظرت إلى الباقي بالباقي.
ثم قال: هو الموصوف بالقدم، ومخترع الوجود من العدم، بنور جلاله أشرقت الظلم، وهو ولي الكرم اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ اَلْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ، وصلى الله على سيدنا محمد سراج الظلم.
وروين من حديث ابن باكويه، عن أحمد بن عبد الله بن عبد المؤمن، نبأ إسماعيل بن القاسم، نبأ عبد الله بن مبويه، عن عبد الرحيم الدبيلي، عن عثمان بن عمارة قال: وردت الحجر مرة فإذا أنا بمحمد بن ثوبان، وإبراهيم بن أدهم، وعبّاد المنفري، وهم يتكلمون بكلام لا أعقله، فقلت لهم: رحمكم الله، بي شأن كما تروني، أصوم النهار، و أقوم الليل، وأحجّ سنة، وأغزو سنة، ما أرى في نفسي زيادة، فشغل القوم عني، حتى ظننت أنهم لم يفهموا كلامي. ثم كانت من واحد منهم التفاتة فقال: يا غلام، إن همّ القوم لم يكن في كثرة الصلاة والصوم، وإنما كان همّ القوم في نفاذ الأبصار حتى أبصروا.
وروين من حديث ابن باكويه أيضا، عن عيسى بن عمر، عن أحمد بن محمد القرشي، عن إبراهيم بن عيسى، عن موسى بن عبد الملك المروزي قال: قال مالك بن دينار: بينما أنا أطوف بالبيت إذ أنا بامرأة في الحجر قد رفعت صوتها، واستغرقت في حالها، مناجية ربها، و هي تقول: أتيتك من شقة بعيدة، مؤملة لمعروفك، فأنلني معروفا من معروفك تغنيني به عن معروف من سواك، يا معروفا بالمعروف. فعرفت أيوب السختياني، فسألنا عن منزلها، و قصدناها وسلّمنا عليها، فقال لها أيوب: قولي خيرا يرحمك الله، قالت: وما أقول؟ أشكو إلى الله قلبي وهواي، قد أضرّا بي، وشغلاني عن عبادة ربي. قوما فإني أبادر طي صحيفتي. قال أيوب: فما حدّثت نفسي بامرأة قبلها، فقلت لها: لو تزوجت رجلا يعينك على ما أنت فيه. قالت: لو كان مالك بن دينار وأيوب السختياني ما أردته. فقلت: أن مالك بن دينار وهذا أيوب السختياني. فقال: أفّ لكما،
لقد ظننت أنه يشغلكما ذكر الله عن محادثة النساء. وأقبلت على صلاتها، فسألنا عنها، فقالوا: هذه ملكية بنت المنكدر.![]() |
![]() |