الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ومن وقائع بعض الفقراء

ما حدثن به عبد الله ابن الأستاذ المروزي، قال: رأى بعض المريدين في الواقعة شيخنا أب مدين وجملة من الصوفية قد أحدقوا به، فقال بعضهم لأبي مدين: ما معنى سر السر و حقيقة الحقيقة؟ فقال: هو محل الأسرار، وعند حقيقته عجزت الأوهام والأفكار، و طاشت عقول ذوي الأبصار، إذ العقول لا تعدو طورها، ولا تعرف حدها، جهل ذلك من جهله، وعلمه من علمه، فلا يدرك الحق إلا الحق، ولا يعرف الحق إلا بالحق. فهذه خلقي وخليقتي، وعلى هذا انطوت حقيقتي. فالتشوّق إلى هذا مما لا يدرك، والخوض فيه واجب أن يترك.

فقال له السائل: أسألك عن التوحيد ما هو؟ فقال: التوحيد همتي، وهو شريعتي وسنّتي. التوحيد هو الغاية القصوى، والملجأ والمأوى. هو الأساس الذي قام به الوجود، و عليه فترة كل مولود. لكن الناس فيه على مراتب، فمنهم القريب، ومنهم الصاحب.

فالرتبة العليا هي الترقّي من الأسماء والصفات إلى توحيد الذات. هناك أفنيت عمري، وأتعبت خاطري وفكري، إلى أن نلت منه المعنى، ولاحظت ذاك الجمال الأسنى. وذلك بمنّ الله سبحانه ابتداء وانتهاء ما يَفْتَحِ اَلله لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَل مُمْسِكَ لَها . ثم قال:

عمرت سرّي بك فأحييتني، ومما سواك أبعدتني، وبك عن الكونين أثنيتني، وبالفضل منك ألهمتني. فأنا الفقير وأنت الغني. ثم قال للسائل: اسمع مخلوقاته بعزّ كبريائه مذلولة، والأشياء كلها من العرش إلى الثرى معلولة، إذ هو سبحانه مذلّها بالقهر، و قاهرها بالأمر، ومصرّفها بقدرته فيما نفع وضرّ. قدرته في الثرى كقدرته في العرش و السماء، وهو معكم أينما كنتم. أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، هو الأول و الآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم. على العرش استوى، وهو خالق العرش و الثرى وما

بينهما. فالكل قائم به، وممسوك بقدرته ولطفه. وما من ذرّة فما فوقها إلا وهو معها، معية ليست بحلول وانتقال، ولا تغيّر ولا زوال، فالمخلوقات بأسرها ظل، وهو سبحانه وتعالى حقيقة الكل.

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!