
كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار
للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
![]() |
![]() |
واقعة لبعض الفقراء
حدثن عبد الله ابن الأستاذ بمرشانة بدار شمس العابدات أم الفقراء، رأى بعض الفقراء في واقعته أبا مدين وبعض مشايخ الصوفية، فقال بعضهم لأبي مدين: ما معنى الوصول؟ فقال: إذا دلك به عليه كنت منه وإليه، وإذا أفناك عن الإحساس كنت في حضرة الإيناس، وإذا كاشفك بحبه لم تتلذذ إلا بقربه، وإذا غيّبك عن شهودك تجلّى لك من وجودك.
قلت: و أفدت ليلة في واقعة، وذلك أني بتّ في جماعة من الصالحين، منهم أبو العباس الحريري الإمام بزقاق القناديل بمصر، وأخوه محمد الخياط، وعبد الله المروزي، ومحمد الهاشمي اليشكري، ومحمد بن أبي الفضل، فأريت نفسي والجماعة في بيت
شديد الظلمة، وليس لنا فيه نور سوى ما ينبعث من ذواتنا، فكانت الأنوار تنفهق علينا من أجسامنا فنضيء بها، فدخل علينا شخص من أحسن الناس وجها ومنطقا، فقال: أنا رسول الحق إليكم، فكنت أقول له: فما جئت به في رسالتك؟ فقال: اعلموا أن الخير في الوجود، والشر في العدم، أوجد الإنسان بجوده، وجعله واجدا ينافي وجوده، تخلق بأسمائه وصفاته، وفني عنها بمشاهدة ذاته، فرأى نفسه بنفسه، وعاد العدد إلى أسه، فكان هو ولا أنت.فأخبرت الجماعة بالواقعة، فسروا وشكروا الله.
ثم وضعت رأسي في عبّي فنظمت في نفسي أبياتا في المعرفة، ونام أصحابي فاستيقظ عبد الله و ناداني: يا أبا عبد الله. فلم أجبه كأني نائم. فقال لي: ما أنت بنائم، أنت تعمل شعرا في معرفة الله وتوحيده. فرفعت رأسي وقلت له: من أين لك هذا؟ فقال لي: رأيتك تعقد شبكة رفيعة، فأوّلت الخيوط المنثورة تعقدها شبكة معاني متفرقة تجمعها، و كلاما منثورا تنظمه. فقلت: هذا يعمل شعرا. قلت له: صدقت، فمن أين عرفت أنه معرفة الله وتوحيده؟ قال: قلت: الشبكة لا يصاد فيها إلا ذو روح حيّ عزيز المأخذ، فلم أجد شعرا فيه روح وحياة وعزة إلا فيما يتعلق بالله تعالى. فكان تأويل رؤياه أعجب إلينا من الرؤيا رضي الله عنهم أجمعين.
![]() |
![]() |