
كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار
للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
![]() |
![]() |
حكمة
إذا قدرت فاصفح، وإذا استشرت فانصح، النصيحة في الملا تقريع، يقال: من وعط أخاه شرا زانه، و من وعظه جهارا شانه.
قال بعض الحكماء: نصف عقلك مع أخيك فاستشره، فإن الاعتصام بالمشورة، لأنها تقيم اعوجاج الرأي، وقلّ من هلك إلا برأيه، ولا يغرّنك قول من قال: لو لم يكن في
ترك المشورة إلا استضعاف صاحبك، وظهور فقرك إليه، لوجب اطراح م يفيده من المشورة، وإلقاء ما يكسبه الامتنان.وقال بعضهم: أمر الحجاج بحضور الشعبيّ، فجاءه ابن الأشعث قادما، فلقيه كاتب الحجاج أبو مسلم، فقال له الشعبيّ: أشر عليّ يا أبا مسلم فأنت أعلم بما هناك، فقال أبو مسلم: لا أدري بم أشير، ولكن اعتذر بما قدرت عليه. قال الشعبي: وأشار عليّ بذلك كل من استشرته من أهل ودّي. قال الشعبي: فلما دخلت على الحجاج اعتمدت على ربي الذي بيده تقليب قلوب الملوك، وعزمت على مخالفة مشورة أصحابي ورأيت والله غير الذي قالوا، وهان عليّ الأمر، فسلّمت عليه بالأمارة إعطاء لحق المرتبة، ثم قلت: أصلح الله الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق، ولك و الله أن لا أقول في مقامي هذا إلا الحق: قد جهدنا وحرصنا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا، وإن عفوت فبحلمك والحجة لك علينا. فقال الحجاج: أنت والله أحب إلين قولا ممن يدخل علينا وسيفه يقطر من دمائنا، ويقول: والله ما فعلت ولا شهدت، أنت آمن يا شعبي. قال الشعبي: فقلت:
أيه الأمير، اكتحلت والله بعدك السهر، واستحليت الخوف، وقطعت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا، قال: صدقت وانصرفت، فنعم المستشار العلم، ونعم الوزير العقل.
وقال بعض الأعزّاء من العقلاء: ما استشرت أحدا إلا كنت عند نفسي ضعيفا، وكان عندي قويا، وتصاغرت له، ودخلته الغيرة، فإياك والمشورة وإن ضاقت بك المذاهب، و اختلفت عليك المسالك، وأداك الاستبهام إلى الخطأ الفادح، فإن صاحبها أبدا جليل في العيون، مهيب في الصدور، ولن تزال كذلك ما استغنيت عن ذوي العقول، فإذا افتقرت إليها حقرتك العيون، ورجفت بك أركانك، وتضعضع بنيانك، وفسد تدبيرك، واستحقرك الصغير، واستخف بك الكبير، وعرفت بالحاجة إليهم. انتهى.
![]() |
![]() |