الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


واقعة لبعض الفقراء

أخبرني صاحبي أبو محمد عبد الله ابن الأستاذ المروزي قال: رأى بعض الفقراء في واقعة أب مدين وأبا حامد الغزالي، فسأل أبو حامد الشيخ أبا مدين عن سرّ معرفته ومحبته، فقال له أبو مدين: المحبة مركبي، والمعرفة مذهبي، والتوحيد وصولي، للمحبة سرّ ل يكشف، وإدراكات لا يعبّر عنها، ولا يوصف سرّها، ومنبعها وفيّ، وأصلها الجود العليّ، فهي للخواص سنّة مسنونة، دلّ على ذلك قوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ . فالمعرفة يا أخي فخري، وهي قاعدة سري وأمري، ثمرتها التوحيد، و منها وفيها يكون المزيد، فالتوحيد أصل، وما سواه فرع، وهو غاية المقامات و نهاية الأحوال، وما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ ثم سأله عن تنزيهه، فقال: نزّهت الحق بما نزّه به نفسه، وحمدته حمد من به قدسه، ومجّدته تمجيد من كان معناه وحسّه، فهو المحرّك للظواهر، ومعلن العلانية، ومسرّ السرائر، فسرّه لسرّي لاح، وتحفه تغمرني في المساء والصباح، إن نظرته وجدته معي، وإن تحققته كان بصري ومسمعي، فهو الممدّ لوجودي، ومقلّب قلبي، وناصر وجودي، فحياتي بحياته ظاهرة، وصفاتي بصفاته مطهرة، وخلقي بأخلاقه متخلّقة، أمدّني بتوحيده، وملأ ظاهري وباطني بجلاله وتمجيده.

ثم قال: يا واحد يا أحد، يا فرد يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، جمّل ناظري بالنظر إليك غدا.

وحدثن عبد الرحمن بن عليّ، أنبأ أبو سعيد البغدادي، عن أبي العباس الظهرانيّ، وأبو عمرو بن منبّه، قالا: حدثنا ابن بوه، عن أبي الحسن اللبياني، عن أبي بكر القرشي، عن أبي حاتم الرازي، عن أحمد بن عبد الله بن عياض، عن عبد الرحمن بن كامل، عن علوان بن داود، عن علي بن زيد، قال: قال طاوس: بينما أنا بمكة إذ بعث إليّ الحجاج بن يوسف فأجلسني إلى جنبه، وأتكأني على وسادته، إذ سمع ملبّيا يلبّي حول البيت رافعا يديه فقال: عليّ بالرجل، فأتي به، فقال: ممن الرجل؟ قال: من المسلمين، قال: ليس عن الإسلام سألت، قال: فعمّ سألت؟ قال: سألتك عن البلد، قال: من أهل اليمن، قال: كيف تركت محمد بن يوسف؟ يريد أخاه، قال: تركته عظيما جسيما لباسا ركّابا خرّاج ولاّجا. قال: ليس عن هذا سألت. قال: فعمّ سألت؟ قال: سألتك عن سيرته. قال: تركته ظلوما غشوما مطيعا للمخلوق عاصيا للخالق. فقال له الحجاج: ما حملك على هذا على أن تتكلم به وأنت تعلم مكانه مني؟ قال الرجل: أتراه بمكانه منك أعز

مني بمكانه من الله عز وجل، وأنا وافد بيته، ومصد نبيّه، وقاضي دينه؟ فسكت الحجاج، وقام الرجل من غير أن يؤذن له. قال طاوس: فقمت في أثره وقلت: الرجل حكيم، فأتى البيت وتعلّق بأستاره ثم قال: اللهم بك أعوذ، وبك ألوذ، اللهم اجعل لي في الكهف إلى وجودك، والرضى لضمانك مندوحة، عن منع الباخلين، غنى عمّا في أيدي المستأثرين.

اللهم فرجك القريب، ومعروفك القديم، وعادتك الحسنة. ثم ذهب في الناس، فرأيته عشية عرفة و هو يقول: اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي، فلا تحرمني الأجر على مصيبتي بتركك القبول مني. ثم ذهب في الناس، فرأيته غداة جمع يقول: وا سوأتاه منك، والله و أن عفوت. يردّد ذلك مرارا.

حدثن أبو الحسن بن الصائغ بسبتة قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن رزق، وكان صاحب رواية و علم، يقول: مررت يوما في سياحتي بجبل فرأيت رجلا ساجدا يتضرّع ويبكي، فقلت: هذ رجل سائح متبتل إلى الله عز وجل، أدنو منه فأسمع ما يقول في سجوده. فدنوت منه بلطف، فسمعته يقول: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، صن يدي عن مدّها إلى غيرك. قال ابن رزق: فلزمت هذا الدعاء، فرأيت له بركة عظيمة.

و بالإسناد قال ابن رزق: مررت بمسجد بفلاة من الأرض في سياحتي، فدخلت لأركع فيه ركعتين، فوجدت فيه قلبي، فأقمت فيه عامين أتعبد الله تعالى.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!