الفتوحات المكية

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الرابع والخمسون: في بيان أن الفسق بارتكاب الكبائر الإسلامية لا يزيل الإيمان

خلافا للمعتزلة في زعمهم أنه يزيله يعني أنه واسطة بين الإيمان والكفر بناء على قولهم إن الأعمال جزء من الإيمان قاله الجلال المحلى وقد استند المعتزلة إلى ظاهر قوله صلى اللّه عليه وسلم " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق " الحديث وقالوا: ظاهر الحديث نفي الإيمان، قال الشيخ نجم الدين البكري: والحق الذي نعتقده أن المراد بقوله وهو مؤمن أي بأن اللّه يراه أي حاضر القلب مع اللّه تعالى إذ لو كان حاضر القلب مع اللّه تعالى لم يستطع أن يعصي حياء من اللّه عز وجل فلا بد للعاصي من سدل الحجاب عليه حتى يقع في المعصية وأقل الحجاب أن يقع في تأويل أو تزيين من النفس كأن تقول له نفسه ربك غفور رحيم ولا يكون غفورا رحيما إلا للمذنبين وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " وبعيد أن اللّه تعالى يؤاخذ مثلك ما دمت تستغفر اللّه وتقول له نفسه أيضا: افعل ما قدر عليك فإنك لا تستطيع أن ترد ما قدره اللّه عليك وتفتح له نفسه باب الرجاء الواسع حتى تهون عليه الذنب: وقد أجمع أهل الكشف على أنه لا يصح لعارف أن يعصي اللّه تعالى على الكشف والشهود أبدا فإن علمه بأن اللّه تعالى يراه يمنعه من الوقوع ثم لو فرض أن العاصي يشهد أن اللّه تعالى يراه حال المعصية فلا بد أن يشهده غير راض عنه في تلك المعصية. وفي حديث الطبراني وغيره مرفوعا: إذا أراد اللّه تعالى إنفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم والمراد بهذه العقول التي تسلب: العقول التي تشهد نظر الحق تعالى إليهم حال معصيتها لا عقول التكليف إذ لو كان المراد بها ذلك ما آخذ اللّه تعالى أحدا عدم التكليف وقد ثبتت المؤاخذة بالنصوص القاطعة فافهم. فإن هذا موضع غلط فيه جماعة من المتصوفة فعلم أنه لا يلزم من كون العبد يحجب عنه الإيمان بأن اللّه تعالى يراه حال المعصية أن ينتفي عنه الإيمان بوجود اللّه تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره كما توهمه بعضهم، بل هو مؤمن بذلك كله لم يحجب عنه ما عدا كون اللّه تعالى يراه فإنه لا بد من حجابه فيه ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا وإلا كان ذلك في غاية قلة الحياء مع اللّه تعالى فإذا فهمت ذلك علمت أن الإيمان يتخصص في كل موطن بما يناسبه بحسب السياق الذي هو فيه وذلك قوله تعالى: وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] أي بأني أنصرهم فإني عند ظن عبدي بي وقس على ذلك هكذا قرره الشيخ نجم الدين البكري في " تفسيره ".

(فإن قلت): فما معنى حديث: " نعم العبد صهيب لو لم يخف اللّه تعالى لم يعصه " ؟

(فالجواب): معناه كما قاله الشيخ في الباب الحادي والسبعين وثلاثمائة: أن الأسباب المانعة للعبد من الوقوع في المعاصي أربعة أشياء لا خامس لها وهي الحياء من اللّه تعالى والخوف من عقابه والرجاء في ثوابه وعدم التقدير في علم اللّه تعالى فمعنى الحديث أن صهيبا لو لم يخف اللّه تعالى لم يعصه أي لأن معه من الأسباب المانعة من الوقوع في المعصية ثلاثة أشياء وهي الحياء من اللّه والرجاء لثواب اللّه وعدم التقدير في علم اللّه وكذلك القول في الثلاثة الباقية كما لو قال صلى اللّه عليه وسلم: " نعم العبد صهيب لو لم يستح من اللّه لم يعصه أو لم يرج ثواب اللّه لم يعصه " فإن معناه كما قلنا في الخوف سواء انتهى.

* - وقال في الباب الثامن والستين: اعلم أن الحكمة في أن الإيمان يخرج من صاحبه حال الزنا والسرقة وشرب الخمر مثلا أنه يخرج عن صاحبه حتى يحميه من وقوع العذاب الذي عرض نفسه له بالزن مثلا فإن الإيمان لا يقاومه شيء وقد أشار إلى ذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم إذ زنى العبد خرج عنه الإيمان حتى يصير عليه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه الإيمان. قال: وما بعد بيان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيان. فعلم أن خروج الإيمان ليس هو لدخول صاحبه في الكفر وإنما خرج ليمنع عنه وقوع العذاب عناية بصاحبه، وأطال الشيخ في ذلك ثم قال: وهنا نكتة جليلة خفية وهي أن العبد المؤمن لا يخلص له قط معصية محضة فلا بد أن يشوبها طاعة وتلك الطاعة هي إيمانه بأنها معصية تسخط اللّه تعالى فهو من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى اللّه أن يتوب عليهم أي يرجع عليهم بالرحمة. قال العلماء: وعسى من اللّه واجبة الوقوع من حيث أن رحمته بالمسلمين سبقت غضبه عليهم.

* - وقال في الباب الرابع والخمسين وثلاثمائة أيضا في معنى حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن: أي مصدق بالعقاب عليه إذ لو كان معه تصديق بالعقاب ما وقع في الذنب كما إذا أوقدنا له نارا عظيمة وقلنا له ازن بهذه المرأة لنحرقك بالنار لا يزني بها قط ولو مكثنا نأمره مدى الدهر وذلك لشهوده العقاب فافهم.

* - وقال في الباب الرابع والثلاثين ومائتين أيضا: اعلم أن من لازم المؤمن الكامل أنه لا يأتي معصية قط توعد اللّه عليها بالعقوبة إلا ويجد في نفسه الندم عند الفراغ منه في الحديث: الندم توبة وقد قام بهذا الندم فهو تائب أي من جهة حقوق اللّه تعالى لا من جهة حقوق الآدميين فسقط حكم الوعيد بهذا الندم فإنه لا بد للمؤمن الكامل أن يكره المخالفة ولا يرضى بها في حال عمله بها فهو من حيث كونه كارها نادم على وقوعه فيها ومؤمن بأنها معصية ذو عمل صالح من ثلاثة وجوه وهو من حيث كونه فاعلا لها شرع ذو عمل سئ من وجه واحد وهو ارتكابه إياها ومن تأمل في قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزلزلة: 8] عثر على ما قلناه فإنه تعالى لم يتعرض للمؤاخذة بذلك الشر وإنما ذكر أنه يراه فقط ثم لا يكون من الكريم إلا الكرم انتهى. هكذا رأيته في كلام بعضهم وعليه فتكون الحكمة في الطائفة التي تدخل النار من الموحدين إنما هو لبيان إظهار فضله على الذين لم يؤاخذهم كما يؤدب السلطان من شاء أدبه من الغلمان ولا تقل فيه شفاعة ليعرف الناس من مقدار نعمه عليهم واللّه تعالى أعلم. وقال الشيخ في الباب السابع والتسعين ومائتين في معنى حديث " لو لم تذنبوا وتستغفروا اللّه لذهب اللّه بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون اللّه فيغفر لهم ": اعلم أن من رحمة اللّه تعالى بخلقه أنه أوجد فيهم النسيان والحجاب حال عصيانهم في دار التكليف فإن المعاصي والمخالفات قد سبق تقديرها على العباد في هذه الدار فلا بد من وقوعها منهم ولو أنها وقعت منهم على الكشف والتجلي لكان ذلك مبالغة في قلة الحياء مع اللّه تعالى حيث أنه يشهده ويراه فلو لا الحجاب لعظم الأمر وشق والقدر حاكم بالوقوع فلذلك حجب اللّه تعالى العاصي من ذلك المشهد لعظم المصاب انتهى. وقال في أواخر باب الحج من "الفتوحات": اعلم أن بعض الناس قد ينفعه ذنبه فيرد إبليس خاسئا وذلك كما إذا كان عند العبد عجب بأعماله وكبر على إخوانه ونحو ذلك فيقع في معصية فيحصل له ذل وانكسار وندم فيزول مرضه ويكتب من التوابين وأطال في ذلك انتهى، وفي كلام ابن عطاء اللّه: ربّ معصية أورثت ذل وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا انتهى وسيأتي في المبحث عقبه زيادة على ما ذكرناه هنا واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!