الفتوحات المكية

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الخامس والخمسون: في بيان أن المؤمن إذا مات فاسقا بأن لم يتب قبل الغرغرة تحت المشيئة الإلهية

فأما أن يعاقب بإدخاله النار ثم يخرج منها لموته على الإسلام وإما أن يسامح بأن لا يدخل النار فضلا من اللّه من غير شفاعة محمد صلى اللّه عليه وسلم أو مع شفاعته أو شفاعة من شاء اللّه تعالى وتردد الإمام النووي في الأخير وهو كلام القاضي عياض. قال الشيخ تقي الدين السبكي:

وإنما تردد النووي في شفاعة من شاء اللّه لأنه لم يرد في السنة تصريح بذلك ولا بنفيه ثم قال وهي في إجازة الصراط بعد نصبه ويلزم منها النجاة من النار قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران: 185] وقال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا(72) [مريم: 72] وزعمت المعتزلة أن من مات مصرّا على كبيرة يخلد في النار ولا يجوز العفو عنه ولا الشفاعة فيه ونقل ذلك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما مستندا إلى قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً [النساء: 93] الآية فإنها نزلت بعد قولهإِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 116] فهي محكمة غير منسوخة هكذا رأيته في " تفسير الإمام سند بن عبد اللّه الأزدي " من أقران الإمام مالك بن أنس رضي اللّه تعالى عنه وأجاب الجمهور مع تقدير عدم النسخ بأنه لا يلزم من الوعيد بالشر وقوعه كما يقول السيد لعبده إذ خالفه ما جزاؤك إلا أن أضربك وأحبسك ثم لا يضربه ولا يحبسه هذا كلام أهل الأصول. وأما نقول الشيخ محيي الدين قال في الباب السابع والأربعين ومائة: اعلم أن من قتل إنسانا ولم يقتل به في الدنيا فأمر القاتل إلى اللّه إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه قال وأما قوله في الحديث القدسي فيمن قتل نفسه بادرني عبدي حرمت عليه الجنة، فالمراد به أنه لا يدخل الجنة مع الرعيل الأول كما في نظائره من الأحاديث الواردة في عذاب الشيخ الزاني ومدمن الخمر وقاطع الرحم والمسبل إزاره خيلاء ونحو ذلك ليوافق النصوص الصحيحة نحو قوله صلى اللّه عليه وسلم " من كان آخر كلامه لا إله إلا للّه دخل الجنة وإن زنى وإن سرق ". وقال أيضا في باب صلاة الجنائز من "الفتوحات": اعلم أن الأخبار الصحيحة والأصول الصريحة تقضي بخروج قاتل نفسه من النار وأن النص الوارد بتأبيد الخلود خرج مخرج الزجر أو يحمل على قاتل نفسه من الكفار لأنه لم يقيده في الحديث بالمؤمنين فتطرق الاحتمال وإذا تطرق الاحتمال رجعنا إلى الأصول وإذا رجعنا إلى الأصول رأين الإيمان قوي السلطان لا يتمكن معه الخلود على التأبيد إلى غير نهاية، فتعين قطع أن الشارع إنما أخبر بذلك في حق الكفار لكونه لم يخص في الحديث صنفا دون صنف بعينه والأدلة الشرعية تؤخذ من جهات متعددة يضم بعضها إلى بعض ليقوي بعضها بعضا فكما أن المؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا فكذلك الإيمان بكذا يشد الإيمان بكذا فيقوي بعضه بعضا وأطال في ذلك ثم قال: والمراد بقوله فيمن قتل نفسه حرمت عليه الجنة أي حرمت عليه الجنة قبل رؤيتي لا سيما من كان الحامل له على قتل نفسه الشوق إلى لقاء اللّه من العشاق ممن كتم عشقه وعفّ فمات وهذا هو الأليق أن يحمل عليه لفظ الخبر إلا أن يأتي لنا نص صريح بخلاف هذا التأويل وأطال في ذلك، ثم قال: وإن ظهر للناظر بعد فيما قررناه فإنما هو لبعد الناظر في نظره من الأصول المقررة التي تناقض هذا التأويل بالشقاء المؤبد فإذا استحضرها ووزن الأمر بميزان الشريعة عرف ما قلناه في الصحيح أخرجوا من النار من كان في قلبه أدنى من مثقال حبة خردل من إيمان فلم يبق إلا ما أولناه انتهى.

(قلت): وفي هذا الكلام ومن بعده رد عن الشيخ وتكذيب لمن افترى عليه أن يقول بخروج أهل النار من الكفار واللّه أعلم. وقال في باب الجنائز أيضا بعد كلام طويل: اعلم أن اللّه تعالى إنما أوجب علينا الصلاة على الميت يريد أن يقبل شفاعتنا فيه وإعلاما لنا بأن سؤالنا فيه مقبول وأنه تعالى يرضى منا ذلك فإن الأمر بالشيء يقتضي رضا الشارع به فمن قال من المعتزلة: إن قاتل نفسه خالد مخلد في النار فهو محمول على كافر مات على كفره أو على الميت الذي لم يصل عليه فلهذا قلن بوجوب الصلاة على من قتل نفسه وأن صلاتنا عليه تنفعه وتمنعه من تأبيد الخلود في النار على زعمهم وأما على قول أهل السنة والجماعة فلا يخلد في النار مؤمن ولا موحد وفي الحديث أيضا: صلوا على من قال لا إله إلا اللّه. فدخل فيه أهل الكبائر وجميع أهل الأهواء والبدع الذين لا يكفرون بأهوائهم وبدعهم لأنه صلى اللّه عليه وسلم ما فصل ولا خصص بل عمم بقوله من وهي نكرة تعم وما أمرنا الشارع بالصلاة على من قال لا إله إلا اللّه وهو يريد أن يرحمه إما بعدم دخوله النار أصلا وإما بإخراجه منها بعد أن أخذت العقوبة حدها.

* - وقال في الباب الخامس والخمسين وثلاثمائة في قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) [العنكبوت: 4] اعلم أن في هذه الآية ردا على من يقول بإنفاذ الوعيد فيمن مات على غير توبة من الموحدين وفيها بيان لشمول الرحمة لكل موحد، وذلك لأن المؤمن إذا عصى فقد تعرض للانتقام والبلاء فهو جار في شأن الانتقام بم وقع منه والحق تعالى يسابقه في هذه الحلبة من حيث ما هو غفار وعفو ومتجاوز ورؤوف ورحيم فالعبد يسابق ربه بفعل السيئات إلى الانتقام والرب سبحانه وتعالى أسبق منه إلى الرحمة والمغفرة بالاسم الرحيم أو الغفار مثلا، فإذا جاء الاسم المنتقم وجد الاسم الغفار وأخواته قد حالوا بينه وبين ذلك العبد العاصي. قال ومعنى الآيةأَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ [العنكبوت: 4] أن يسبقوا بسيئاتهم مغفرتي وشمول رحمتي ساءَ ما يَحْكُمُونَ * [العنكبوت: 4] بل السبق لي بالرحمة لهم ولكل موحد وهذا غاية الكرم. قال وهذا لا يكون إلا فيمن مات على غير توبة من عصاة الموحدين فإن العاصي منهم إذا مات تلقته رحمة اللّه في الموطن الذي يشاء اللّه أن يلقاه فيه. وأما حديث ومن كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه. فذلك في حق الكافر وأما في حق عصاة الموحدين ممن لم يحق عليه كلمة العذاب فينبغي تأويله، من كره لقاء اللّه من كثرة مخالفته فم كره لقاء اللّه من حيث اللقاء مطلقا وإنما هو لما عمله من المخالفات فخاف أن يؤاخذه انتهى فليتأمل.

* - وقال في الباب السابع والأربعين وثلاثمائة: لولا أن رحمة الحق تعالى بالمؤمن ممزوجة بغضبه لم يبق للعاصي أثر على وجه الأرض فالمؤمن حال مؤاخذات الحق له كالمعذب المرحوم لكونه لا يقع في معصية إلا وهو مؤمن بأنها معصية خائف من عاقبتها فلا يخلد في النار إلا كافر والسلام.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!