الفتوحات المكية

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الخامس والثلاثون: في كون محمد صلى اللّه عليه وسلم خاتم النبيين كما به صرح القرآن

اعلم أن الإجماع قد انعقد على أنه صلى اللّه عليه وسلم خاتم المرسلين كما أنه خاتم النبيين، وإن كان المراد بالنبيين في الآية هم المرسلين وعبارة الشيخ محيي الدين في الباب الثاني والستين وأربعمائة من "الفتوحات": قد ختم اللّه تعالى بشرع محمد صلى اللّه عليه وسلم جميع الشرائع فلا رسول بعده يشرع ول نبي بعده يرسل إليه بشرع يتعبد به في نفسه إنما يتعبد الناس بشريعته إلى يوم القيامة.

(قلت): وأما اجتهاد الأئمة وتشريعهم في الأحكام فذلك بإذنه مع أن مادتهم في الاستنباط إنما هو شرعه صلى اللّه عليه وسلم الثابت كتابا كان أو سنة، وأعني بالسنة هنا الحديث ويلحق بالسنة كل حكم صدر عنه المجتهد من قياس فرع على أصل فإنه من السنة أيضا وهو المراد بالاستنباط، وأما قياس فرع على فرع فلا يقول به إلا المقلدون للأئمة فإنهم جعلوا قياس الفرع على الأصل أصلا رابعا كما جعلو الإجماع أصلا ثالثا، وقالوا: إن الأئمة لا تجمع على أمر إلا وهم يعرفون له دليل، وإن لم يذكروه لنا فنحن نقطع بتحريم خرق إجماع الأئمة سواء علمنا لهم دليلا في ذلك أم لم نعلم واللّه أعلم.

 

* - وقال في الباب الرابع عشر من "الفتوحات": اعلم أن حقيقة النبي الذي ليس برسول هو شخص يوحي اللّه إليه بأمر يتضمن ذلك شريعة يتعبد بها في نفسه فإن بعث بها إلى غيره كان رسولا أيضا، وأطال في ذلك ثم قال: واعلم أن الملك يأتي النبي بالوحي على حالين تارة ينزل بالوحي على قلبه وتارة يأتيه في صورة جسدية من خارج فيلقي ما جاء به إلى ذلك النبي على أذنه فيسمعه أو يلقيه على بصره فيبصره فيحصل له من النظر مثل ما يحصل له من السمع سواء. قال: وهذا باب أغلق بعد موت محمد صلى اللّه عليه وسلم فلا يفتح لأحد إلى يوم القيامة ولكن بقي للأولياء وحي الإلهام الذي لا تشريع فيه إنما بفساد حكم. قال بعض الناس بصحة دليله ونحو ذلك فيعمل به في نفسه فقط قال، ولو أنّ الوحي على لسان جبريل عليه السلام كان باقيا بعد محمد صلى اللّه عليه وسلم لكان عيسى عليه السلام إذا نزل لا يحكم بشريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم، وإنما يحكم بشرعه الذي يوحي به إليه جبريل وأطال في ذلك.

 

* - وقال في الباب العاشر وثلاثمائة: واعلم أن الوحي لا ينزل به الملك على غير قلب نبي أصلا ولا يأمر غير نبي بأمر إلهي جملة واحدة، فإن الشريعة قد استقرت وتبين الفرض، والواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح، فانقطع الأمر الإلهي بانقطاع النبوة والرسالة، وما بقي أحد من خلق اللّه تعالى يأمره اللّه بأمر يكون شرعا يتعبد به أبدا، فإنه إن أمره بفرض كان الشارع أمره به، وأخطأ هو في ادعائه نبوة قد انقطعت، أو نهاه عن حرام كان الشارع نهاه عنه أو أمره بمندوب كان الشارع ندبه إليه أو نهاه عن مكروه كان الشارع كرهه له، فإن قال: إن اللّه أمرني بفعل المباح قلنا له: لا يخلو أن يرجع ذلك المباح واجبا في حقك أو مندوب وذلك عين نسخ الشرع الذي أنت عليه حيث صيرت بالوحي الذي زعمته المباح الذي قرره الشارع مباحا مأمورا به يعصي العبد بتركه، وإن أبقاه مباحا كما كان في الشريعة فأي فائدة لهذا الأمر الذي جاء به ملك وحي هذا المدعي، فإن قال لم يجئني بذلك ملك، وإنما أمرني اللّه تعالى به من غير واسطعة قلنا له: هذا أعظم من الأول فإنك إذن ادعيت أن اللّه تعالى كلمك كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام ولا قائل بذلك لا من علماء النقل ولا من علماء الذوق ثم إنه تعالى لو كلمك أو قال لك ما كان يلقى في كلامه إلا علوما وأخبارا لا أحكاما ولا شرعا، ولا يأمرك بأمر جملة واحدة انتهى.

* - قال الشيخ أيضا في الباب الحادي والعشرين من "الفتوحات": من قال إن اللّه تعالى أمره بشيء، فليس ذلك بصحيح إنما ذلك تلبيس لأن الأمر من قسم الكلام وصفته وذلك باب مسدود دون الناس، فإنه ما بقي في الحضرة الإلهية أمر تكليفي إل وهو مشروع فما بقي للأولياء وغيرهم إلا سماع أمرها، ولكن لهم المناجاة الإلهية وتلك لا أمر فيها وإنما هو حديث وسمر، وكل من قال من الأولياء إنه مأمور بأمر إلهي في حركاته وسكناته مخالف لأمر شرعي محمدي تكليفي فقد التبس عليه الأمر، وإن كان صادقا فيما قال إنه سمعه فليس ذلك عن اللّه، وإنما هو عن إبليس فظن أنه عن اللّه لأن إبليس قد أعطاه اللّه تعالى أن يصور عرشا وكرسيا وسماء، ويخاطب الناس منه كما مر في مبحث خلق الجن انتهى وسيأتي بسط ذلك في مبحث الولاية إن شاء اللّه تعالى .

فقد بان لك أن أبواب الأوامر الإلهية والنواهي قد سدت وكل من ادّعاه بعد محمد صلى اللّه عليه وسلم فهو مدع شريعة أوحى بها إليه سواء موافق شرعنا أو خالف، فإن كان مكلفا ضربنا عنقه وإلا ضربنا عنه صفحا.

(فإن قيل): فهل كان قبل بعثة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تحجير في ادعاء النبوة ؟

(فالجواب): لم يكن في ادعائها تحجير ولذلك قال العبد الصالح الخضر عليه الصلاة والسلام: وما فعلته عن أمري فإن زمانه أعطى ذلك وهو على شريعة من ربه أوحى إليه بها على لسان ملك الإلهام، وقيل ؛ بلا واسطة وقد شهد له الحق تعالى بذلك عند موسى وعندنا وزكاه، وأما اليوم فإلياس والخضر عليهما الصلاة والسلام على شريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم إما بحكم الوفاق أو بحكم الاتباع، وعلى كل حال فلا يكون لهما ذلك إلا على سبيل التعريف لا على طريق النبوة، وكذلك عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل إلى الأرض لا يحكم فينا إلا بشريعة نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم يعرفه الحق تعالى بها على طريق التعريف، وإن كان نبيا انتهى.

واعلم أن أمر الحق عز وجل حكمه العموم إلا أن يخصه دليل وقد قال تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء: 59] فلم يجعل لأحد بعد بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم أن يخالف شرعه إنما أوجب عليه الاتباع وجعل لمحمد صلى اللّه عليه وسلم أن يشرع فيأمر وينهي، وأما قوله تعالى: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] ، فالمراد بطاعتنا لهم فيما إذا أمرونا بمباح أو نهون عنه، لا أنهم يشرعون لنا شريعة تخالف شرع محمد الثابت، فإذا أمرونا بمباح أو نهونا عنه فأطعناهم فقد أجرنا في ذلك أجر من أطاع أمر اللّه تعالى فيما أوجبه من أمر ونهي وهذا من كرم اللّه تعالى بنا ولا يشعر به غالب الناس بل ربما استهزؤوا به واللّه أعلم. وقا الشيخ في الباب الثامن والثلاثين من "الفتوحات": لما أغلق اللّه باب الرسالة بعد محمد صلى اللّه عليه وسلم كان ذلك من أشد ما تجرعت الأولياء مرارته لانقطاع الوحي الذي كان به الوصلة بينهم وبين اللّه تعالى فإنه قوت أرواحهم انتهى.

* - وقال في الجواب الخامس والعشرين من الباب الثالث والسبعين: اعلم أن النبوة لم ترتفع مطلقا بعد محمد صلى اللّه عليه وسلم وإنما ارتفع نبوة التشريع فقط فقوله صلى اللّه عليه وسلم لا نبي بعدي ولا رسول بعدي. أي ماثم من يشرع بعدي شريعة خاصة فهو مثل قوله صلى اللّه عليه وسلم إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ولم يكن كسرى وقيصر إلا ملك الروم والفرس وما زال الملك في الروم ولكن ارتفع هذا الاسم فقط مع وجود الملك فيهم وسمي ملكهم باسم آخر غير ذلك، وقد كان الشيخ عبد القادر الجيلي يقول أوتي الأنبياء اسم النبوة وأوتينا اللقب أي حجر علينا اسم النبي مع أن الحق تعالى يخبرنا في سرائرنا بمعاني كلامه وكلام رسوله صلى اللّه عليه وسلم ويسمى صاحب هذا المقام من أنبياء: الأولياء فغاية نبوتهم التعريف بالأحكام الشرعية حتى لا يخطئوا فيها لا غير انتهى.

(فإن قلت): فما الحكم في تشريع المجتهدين ؟

(فالجواب): أن المجتهدين لم يشرعوا شيئا من عند أنفسهم وإنما شرعو ما اقتضاه نظرهم في الأحكام فقط من حيث إنه صلى اللّه عليه وسلم قرر حكم المجتهدين فصار حكمهم من جملة شرعه الذي شرعه فإنه صلى اللّه عليه وسلم هو الذي أعطى المجتهد المادة التي اجتهد فيها من الدليل، ولو قدر أن المجتهد شرع شرعا لم يعطه الدليل الوارد عن الشارع رددناه عليه لأنه شرع لم يأذن به اللّه واللّه أعلم.

(خاتمة): مما يؤيد كون محمد صلى اللّه عليه وسلم أفضل من سائر المرسلين وأنه خاتمهم وكلهم يستمدون منه ما قاله الشيخ في علوم الباب الأحد والتسعين وأربعمائة من أنه ليس لأحد من الخلق علم يناله في الدنيا والآخرة إلا وهو من باطنية محمد صلى اللّه عليه وسلم سواء الأنبياء والعلماء المتقدمون على زمن بعثته والمتأخرون عنها وقد أخبرنا صلى اللّه عليه وسلم بأنه أوتي علم الأولين والآخرين ونحن من الآخرين بلا شك، وقد عمم محمد صلى اللّه عليه وسلم الحكم في العلم الذي أوتيه فشمل كل علم منقول ومعقول ومفهوم وموهوب. فاجهد يا أخي أن تكون ممن يأخذ العلم باللّه تعالى عن نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم فإنه أعلم خلق اللّه باللّه على الإطلاق وإياك أن تخطىء أحدا من علماء أمته من غير دليل وهذا سر نبهتك عليه فاحتفظ به ولا تقل حجرت واسعا وتقول قد يعطي اللّه تعالى عبده من الوجه الخاص الذي بين كل مخلوق وبين ربه عز وجل من غير واسطة محمد صلى اللّه عليه وسلم ما شاء من العلوم بدليل قصة الخضر عليه السلام مع موسى الذي هو رسول زمانه لأنا نقول نحن ما حجرنا عليك أن لا تعلم مطلقا وإنما حجرن عليك أن لا يكون لك علم ذلك إلا من باطنية محمد صلى اللّه عليه وسلم شعرت بذلك أم لم تشعر. قال الشيخ: ووافقنا على ذلك الإمام أبو القاسم بن قسي في كتابه " خلع النعلين " وهو من روايتنا عن ابنه عنه بتونس سنة تسعين وخمسمائة واللّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!