الفتوحات المكية

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث السادس والثلاثون: في عموم بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى الجن والإنس وكذلك الملائكة على ما سيأتي فيه وهذه فضيلة لم يشركه فيها أحد من المرسلين

وقد ورد في " صحيح مسلم " وغيره: وأرسلت إلى الخلق كافة. وفسروه بالإنس والجن كما فسروا بهما أيضا من بلغ في قوله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَ الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] .وَمَنْ بَلَغَأي بلغه القرآن وكما فسروا بذلك أيضا العالمين في قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً(1) [الفرقان: 1] قاله الجلال المحلي رحمه اللّه.

(فإن قلت): فهل تكليف الجن بالشرائع المنزلة من عند الحق تعالى تكليف ألزمهم به الحق تعالى ، ابتداء وألزموا به أنفسهم ليشاركونا في الفضائل فألزمهم الحق تعالى به كالنذر ؟

(فالجواب): قد أورد هذا السؤال الشيخ في الباب السادس والستين وثلاثمائة وقال: لا أدري انتهى. فمن ظفر في ذلك بنقل فليلحقه بهذا الموضع من هذ الكتاب، واختلفوا في الملائكة هل أرسل إليهم محمد صلى اللّه عليه وسلم، أم لا فنقل البيهقي في الباب الرابع من شعب الإيمان عن الحليمي أنه صرح بأنه صلى اللّه عليه وسلم، لم يرسل إلى الملائكة ثم إنه نقل عن الحليمي أيضا في الباب الخامس عشر بانفكاكهم عن شرعه. وفي " تفسير الرازي " و " البرهان النسفي " حكاية الإجماع في تفسير الآية الثانية السابقة آنفا على أنه صلى اللّه عليه وسلم، لم يكن رسول إليهم. قال الشيخ كمال الدين بن أبي شريف في " حاشيته ": وفي نقل البيهقي ذلك عن الحليمي إشعار بالتبري من عهدته وبتقدير أن لا إشعار فيه فلم يصرح بأنه مرضى عنده. قال: وأم الحليمي فإنه وإن كان من أهل السنة فقد وافق المعتزلة في تفضيل الملائكة على الأنبياء وما نقل عنه هنا أي: من أنه لم يرسل إلى الملائكة موافق لقوله بأفضلية الملائكة فلعله بناه عليه وأطال الشيخ كمال الدين في ذلك ثم قال: ومع ذلك فالأليق بالعلماء الوقف عن الخوض في هذه المسألة على وجه يتضمن دعوى القطع في شيء من الجانبين انتهى.

(قلت): والحاصل أن كلام الأصوليين يرجع إلى قولين: الأول: أنه أرسل إلى الملائكة.

والثاني: لم يرسل إليهم. والذي صححه السبكي وغيره أنه أرسل إليهم وزاد البارزي رحمه اللّه أنه أرسل إلى الحيوانات والجمادات والشجر والحجر ذكره الجلال السيوطي في أوائل كتاب " الخصائص " ونقل فيها أيضا عن السبكي أنه كان يقول: إن محمدا صلى اللّه عليه وسلم نبي الأنبياء فهو كالسلطان الأعظم وجميع الأنبياء كأمراء العساكر ولو أدركه جميع الأنبياء لوجب عليهم اتباعه إذ هو مبعوث إلى جميع الخلق من لدن آدم إلى قيام الساعة فكانت الأنبياء كلهم نوابه مدة غيبة جسمه الشريف وكان كل نبي يبعث بطائفة من شرعه صلى اللّه عليه وسلم، لا يتعداها انتهى. وكان سيدي علي الخواص رحمه اللّه يقول: كان صلى اللّه عليه وسلم، مبعوثا إلى الخلق أجمعين في عالم الأرواح والأجسام من لدن آدم إلى قيام الساعة.

(وسمعته) يقول: الملائكة على ثلاثة أقسام: (قسم) أرسل إليهم محمد صلى اللّه عليه وسلم، بالأمر والنهي معا وهم الملائكة الأرضيون وما بين الأرض والسماء الأولى. (وقسم) أرسل إليهم بالأمر فقط وهم ملائكة السماوات فإنهم لا يذوقون للنهي طعما إنما هم في الأمر فقط. قال تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] . (وقسم) لم يرسل إليهم أصلا لا بأمر ولا نهي. وهم الملائكة العالون المشار إليهم بقوله تعالى لإبليس استفهام إنكار: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ [ص: 75] . فإن هؤلاء الملائكة عابدون للّه تعالى بالذات التي جبلهم عليها لا يحتاجون إلى رسول بل هم مهيمون في جلال اللّه تعالى ، لا يعرفون أن اللّه تعالى خلق آدم ولا غيره انتهى. فليتأمل القسم الأول ويحرر فإنه غريب في كلامهم واللّه أعلم. (وسمعته) مرة أخرى يقول: ملائكة الأرض إلى السماء الأولى غير معصومين لأن محمدا صلى اللّه عليه وسلم، أرسل إليهم بالنهي ولا يرسل نبي إلى أحد بالنهي إلا إن كان يتصور وقوعه فيه فإن المعصوم لا يحتاج إلى رسول ولذلك لم يرسل قطّ نبي إلى نبي ومن سمى ملائكة الأرض جنا فهو صحيح لاستتارهم عن العيون قال تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: 158] فقالوا إنه بنات اللّه تعالى عن ذلك. قال: ومما يؤيد عدم عصمة ملائكة الأرض وقوع النزاع منهم في قصة آدم عليه الصلاة والسلام، بقولهم: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيه وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] فإنهم لم يقولوا ذلك إلا عن ذوق وقع لهم في الأرض قبل آدم ولولا ذوقهم لذلك ما اهتدوا للاعتراض عليه انتهى. وعلم من كلامه سابقا ولاحقا أن من قال: إنه أرسل إلى الملائكة مطلقا بالأمر والنهي معا فما حقق الأمر، ومن قال لم يرسل إليهم مطلقا كذلك فما حقق الأمر ومن فصل ذلك كما تقدم أصاب وهو كلام منزعه الكشف ولم أجده لغيره رحمه اللّه وقد ذكر القاشاني ما يؤيد القول بعدم عصمة الملائكة الأرضية فقال: إن قيل كيف وقع من الملائكة نزاع واعتراض في قصة آدم مع عصمتهم وقول اللّه تعالى صدق قطعا.

(فالجواب): أن هذا النزاع لم يقع من ملائكة الجبروت والسماوات لعصمتهم وإنما وقع ذلك من ملائكة الأرض وما بينها وبين السماء لكونهم لا عصمة عندهم فإن ملائكة الجبروت والسماوات لغلبة النورانية عليهم وإحاطتهم بالمراتب يعرفون شرف مقام الإنسان الكامل وعلو رتبته عليهم عند اللّه تعالى . ولم يأت لن في كتاب ولا سنة تصريح بأن هذا النزاع وقع من الملائكة السماوية والأرضية وإنم أخذنا ذلك من معرفة العناصر حين رأينا أهل كل عنصر تحت حكم عنصرهم من نور أو ظلمة فقلنا: إن النزاع وقع من ملائكة الأرض لغلبة الظلمة عليهم والطبيعة الموجبة للحجاب، قال: ويؤيد ذلك الإشارة بتخصيص الأرض بالذكر في قوله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] فما وقع منهم النزاع إلا من علمهم بأحوال أهل الأرض فإن الملائكة السماوية لا يفسدون، ولا يسفكون الدماء بل ليس لأحدهم دم في جسمه يسيل أبدا وأطال في ذلك ثم قال: فقد بان الاعتراض والطعن في آدم لم يصدر من ملائكة الجبروت إذ النزاع لا يكون إلا ممن ركب من الطبائع الأربع لما فيها التضاد إذ المتكون منها لا يكون إلا على حكم الأصل انتهى. قال بعضهم: ولعل مراده بهؤلاء الملائكة القاطنين بين السماء والأرض نوع من الجن سماهم ملائكة اصطلاحا له.

(فإن قيل): قد وصف اللّه تعالى الملأ الأعلى بالخصام في قوله: م كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ(69) [ص: 69] وفي قوله في الحديث: " قلت: يا رب فيم يختصم الملأ الأعلى " الحديث.

(فالجواب): كما قاله الشيخ في "الفتوحات": أن خصام هؤلاء ليس هو في الاعتراض على أحكام اللّه وتقديره في خلقه وإنما خصامهم في بيان الأفضل من الأعمال كما صرح به الحديث. وذلك حتى أنهم يتبادرون إلى بني آدم بدعوتهم بلسانهم ويرغبونهم في فعل ما فيه الأجر العظيم من الأعمال حتى يقدموه على غيره من غير التفات إلى غيره مما أجره يسير فهم كالرجلين المتناظرين في مسائل الحيض التي لا نصيب فيها للرجال.

(فإن قيل): فهل هم في هذا الخصام مسبحون للّه تعالى به لكونهم قد وصفهم اللّه تعالى بأنهميُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ(20) [الأنبياء: 20] وذلك لزوال الملل ؟

(فالجواب): نعم هم مسبحون للّه تعالى ، بذلك الخصام وهو من جملة تسبيحهم كما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، يذكر اللّه على كل أحيانه ومعلوم أنه كان يتحدث مع الأعراب ويمزح مع الأطفال والعجائز وهو في ذلك ذاكر للّه تعالى لا يتحرك ولا يسكن إلا في أمر مشروع.

(فإن قلت): فهل ذلك المقام لكل كامل بعده صلى اللّه عليه وسلم ؟

(فالجواب): نعم لأن اللّه تعالى ما شرع لعباده أمرا إلا ليشهدوه تعالى حال العمل بذلك الأمر، فمنهم من وفي بذلك المقام ومنهم من أتى بعباداته مع الغفلة.

(فإن قلت): فهل يلحق خصام أرباب المذاهب بخصام الملائكة المذكورين في الأجر والثواب ؟

(فالجواب): نعم لكن بشرط أن يكون الجدال والخصام بصريح السنة لا بالفهم، وأن يكونوا مخلصين في عملهم لا يشوبهم غرض نفساني فإن قصدوا مغالبة الخصوم ورد أقوال مذاهبهم فذلك مذموم شرعا فإن اللّه تعالى يقول: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] ومن سعى في تفرقة الدين ولو باللازم فقد أضجعه من قيامه وقد نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، عن الجدال في دين اللّه بغير نص وقال: عند نبي لا ينبغي التنازع وحكم تقرير العلماء شرعه من بعده في الأدب كحكم حضورهم عنده سواء كما يعلم ذلك العلماء باللّه تعالى واللّه سبحانه وتعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!