الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


مرافقة المتّقين الأخيار في الأسفار

حدثن عبد الرحمن بن علي، نبأ عبد الوهاب الحافظ، انا المبارك بن عبد الجبار، نبأ علي بن أحمد الملطي، نبأ ابن دوست، نبأ ابن صفوان، نبأ القرشي، نبأ محمد بن الحسين، حدثن بعض أصحابي قال: جاءني بهيم العجلي فقال: تعلم لي رجلا من جيرانك وإخوانك يريد الحج ترضاه لمرافقتي؟ قلت: نعم، فذهبت به إلى رجل به صلاح ودين، فجمعت بينهما، و تواطآ على المرافقة، ثم انطلق بهيم إلى أهله، فلما كان بعد أتاني الرجل فقال: أريد أن تزوي عني صاحبك، ويطلب رفيقا غيري. فقلت: ولم؟ فو الله ما أعلم بالكوفة له نظيرا في حسن الأخلاق والاحتمال.

قال: حدثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفترّ، فهذا ينغّض علينا العيش. فقلت له: إنما يكون البكاء أحيانا عند التذكرة، أوما تبكي أنت؟ قال: بلى. ولكنه بلغني أنه أمر عظيم من كثرة بكائه.

قلت: اصحبه فلعلك أن تنتفع به. قال: أستخير الله. فلما كان اليوم الذي أرادا أن يخرج فيه جيء بالإبل، فوطئ لهما، فجلس بهيم يبكي في ظل حائط، فوضع يده تحت لحيته، و جعلت دموعه تسيل على خدّيه، ثم على لحيته، ثم على صدره، حتى والله رأيت دموعه على خدّيه ثم على الأرض. فقال لي صاحبي: يا مخول، قد ابتدأ صاحبك، ليس هذا لي برفيق.

فقلت له: ارفق لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم. فسمعها بهيم فقال: يا أخي، والله ما هو ذاك، وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة، وعلا صوته بالنحيب، فقال لي صاحبي: ما هذا بأول عداوتك لي، ما لي ولبهيم؟ إنما كان ينبغي أن ترافقوا بين بهيم و بين داود الطائي وسلام أبي الأخوص، حتى يبكي بعضهم إلى بعض فيستشفون أو يموتون.

فلم أزل أرفق به، وأقول له: لعلها خير سفرة سافرتها، وكل ذلك لا يعلم به بهيم، ولو يعلم ما صاحبه، فخرجا وحجّا ورجعا. فلما جئت أسلّم على جاري قال لي: جزاك الله عني يا أخي خيرا، ما ظننت أن في هذا الخلق مثل أبي بكر، كان والله يتفضل عليّ في النفقة وهو معدوم وأنا موسر، وفي الخدمة وأنا شابّ وهو شيخ، ويطبخ لي وأن مفطر وهو صائم. قلت: كيف كان أمرك معه في الذي تكرهه من طول البكاء؟ قال: والله ألفت ذلك البكاء، وسرّ قلبي حتى كنت أساعده عليه حتى تأذي بنا الرفقة، ثم ألفو ذلك، فجعلوا إذا سمعونا نبكي يبكون، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منّا، والمصير واحد؟ فيبكون ونبكي. ثم خرجت من عنده وأتيت بهيما، و قلت: كيف رأيت

صاحبك؟ قال: خير صاحب، كثير الذكر لله عز وجل، طويل التلاوة، سريع الدمعة، جزاك الله عني خيرا.

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!