الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


حديث ملك متقدم

حدثن يونس، عن محمد بن ناصر، انا محفوظ بن أحمد، انا محمد بن الحسين، نبأ المعافى، ان عبد الله بن محمد بن جعفر، نبأ أبو بكر بن أبي الدنيا، عن القاسم، عن هاشم، نب الحكيم بن هاشم، عن صفوان بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله الخزاعي، أن ذ القرنين أتى على أمة من الأمم ليس في أيديهم شيء مما يستمتع به الناس من دنياهم، قد احتفروا قبورا، فإذا أصبحوا تعاهدوا تلك القبور، فكنسوها، وصلوا عندها، ورعو البقل كما ترعى البهائم.

وقد قيّض الله لهم من ذلك معاشا من نبات الأرض. فأرسل ذو القرنين إلى ملكهم، فقال الرسول: أجب الملك ذا القرنين، فقال: ما لي إليه حاجة، فأقبل إليه ذو القرنين فقال: إني أرسلت إليك لتأتيني فأبيت، فها أنا ذا قد أتيتك. فقال: لو كانت لي إليك حاجة لأتيتك. فقال له ذو القرنين: ما لي أراكم على الحالة التي رأيت لم أر أحدا من الأمم عليها؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: ليس لكم دنيا ولا شيء، أفلا اتخذتم الذهب و الفضة فاستمتعتم بها؟ قالوا: إنما كرهناها، لأن أحدا لم يعط منها شيئا إلا تاقت نفسه إلى أفضل منه.

فقال: م بالكم قد احتفرتم قبورا فإذا أصبحتم تعهّدتموها وكنستموها وصليتم عندها؟ قالوا: أردنا إذا نظرنا إليها وأملنا الدنيا منعتنا قبورنا من الأمل. قال: وأراكم ل طعام لكم إلا البقل من الأرض، أفلا اتخذتم البهائم من الأنعام فاحتلبتموها و ذبحتموها واستمتعتم بها؟ فقالوا: إنّا رأينا أن في نبات الأرض بلاغا.

ثم بسط ملك تلك الأرض يده خلف ذي القرنين، فتناول جمجمة، فقال: يا ذا القرنين، أتدري من هذا؟ قال: لا، من هو؟ قال: هذا ملك من ملوك الأرض، أعطاه الله سلطانا على أهل الأرض، فغشم وظلم وعتا. فلما رأى ذلك منه جسمه بالموت فصار كالحجر الملقى، قد أحصى الله عمله عليه، حتى يجزيه في آخرته. ثم تناول جمجمة أخرى بالية فقال: يا ذ القرنين، أتدري من هذا؟ قال: ومن هذا؟ قال: ملك ملّكه الله بعده، قد كان يرى م يصنع الذي قبله بالناس من الظلم والتجبّر، فتواضع وخشع لله عز وجل، وعمل بالعدل في مملكته، فصار كما ترى قد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه في آخرته. ثم أهوى إلى جمجمة ذي القرنين فقال:

وهذه الجمجمة كان قد كانت كهاتين، فانظر يا ذا القرنين ما أنت صانع. فقال له ذو القرنين: هل لك في صحبتي فأتخذك وزيرا وشريكا فيما أتاني من هذا المال؟ فقال: م

أصلح أنا وأنت في مكان، قال: ولم؟ قال: من أجل أن الناس كلهم لك عدو ولي صديق، قال: ولم ذلك؟ قال: يعادونك لما في يديك من المال و الملك، ولا أجد أحدا يعاديني لرفضي في ذلك. فانصرف عنه ذو القرنين. هو ذو القرنين الأكبر، وقيل: هو المذكور في القرآن.

قال بعض المؤرخين: هو أول القياصرة، وهو ابن سام بن نوح. يقال: إنه لقي إبراهيم عليه السلام، فطاف البلاد، وسدّ على يأجوج ومأجوج. واختلف في تسميته ذو القرنين، لأنه لقب له، واسمه عبد الله بن الضحاك، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما. و قال بعضهم: كان بعد نمرود بن كنعان، وهو الذي بنى الإسكندرية. وقد ذكرنا في هذ الكتاب من أخباره بعض ما وصل إلينا. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان عبد صالحا ولم يكن نبيا بعثه الله في قومه، فضربوه على قرنه فقتلوه، ثم بعثه الله أخرى فضربوه على قرنه فقتلوه، ثم بعثه الله أخرى فضربوه على قرنه فمات.

قال غيره: كان له شبه القرنين نابتين في رأسه، وقيل: لبلوغه قطري الأرض، ومات بأرض بابل.

وأما ذو القرنين الأصغر فهو الإسكندر ابن فيلسوف اليونانيّ، قتل دارا، وسلبه ملكه، وتزوج ابنته، وكانت من أجمل الناس. فلما اجتمع له ملك الروم وملك فارس سمّي ذو القرنين لهما. وقيل: إنه رأى في منامه كأنه أخذ بقرني الشمس، فسمّي بذلك. ثم رجع إلى العراق بعد طلبه عين الخلد، ومات بشهرزور، وقيل: بميافارقين. وحمل إلى أمه في تابوت من ذهب إلى الإسكندرية، وكان عمره ستة وثلاثين سنة، ومدة ملكه أربع عشرة سنة. وكان قبل المسيح بثلاثمائة وثلاث سنين، وقيل: تسع عشرة سنة. وقد روي أنه هو الذي سدّ على يأجوج ومأجوج.

روي من حديث أسلم أنه قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلا، حتى إذا كنا بموضع إذا نار، فقال: يا أسلم، إني لأرى هنا ركبا قصّر بهم الليل والبرد، فانطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان صغار، وإذا بقدر منصوبة على نار وصبيانها يتضاعفون، فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء، وكره أن يقول: يا أصحاب النار، فقالت: وعليكم السلام، فقال: أدنو؟ فقالت: ادن بخير أو دع، قال: فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصّر بنا الليل والبرد، قال: وما بال هذه الصبية يتضاعفون؟ قالت: من الجوع، قال: فأي شيء في هذا القدر؟ قالت: ماء، أسكتهم حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر. قال: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ قلت: يتولى أمرنا

ثم يتغافل عنّا. قال: فأقبل عليّ فقال: انطلق بنا، فخرجنا حتى أتينا دار الدقيق، فأخرجنا عدلا من دقيق وكبة من شحم، فقال: احمله عليّ، فقلت: أنا أحمله عنك، فقال: أنت تحمل وزري؟ لا أمّ لك، فحمّلته عليه، فانطلق و انطلقت معه إليها أهرول، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئا وجعل يقول لها: درّي عليّ وأنا أحرّك لك. وجعل ينفخ تحت القدر، ثم أفرغها في صفحة، وقال: أطعميه للصبية، ولم يزل حتى شبعوا، وترك عندها فضل ذلك.

فجعلت تقول: جزاك الله خيرا، كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين. فيقول:

قولي خيرا، إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك. ثم تنحّى ناحية وربض كالأسد.

فقلت: لك شأن غير هذا؟ فلم يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرخون، ثم ناموا وهدوا.

فقال: ي أسلم، إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!