الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ملك الروم وما كان منه في ذلك

روينا من حديث الحافظ أبي نعيم، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن أبو عمر، نبأ الحسن بن الجهم، نبأ الحسين بن الفرج، نبأ محمد بن عمر الواقدي، حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عمر بن عبد الله، عن محمد بن كعب القرظيّ، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم دحيّة الكلبيّ إلى قيصر، وكتب إليه معه، فلقيه دحية بحمص، وقيصر ماش من قسطنطينية، فلما لقيه قال له من قومه كلب: إذا لقيته فاسجد له، ثم لا ترفع رأسك حتى يأذن لك. قال دحية: لا أفعل هذا أبدا، ولا أسجد لغير الله. قال: فإذا ل يأخذ كتابك، ولا يردّ جوابك. قال: وإن لم يأخذ. قال رجل من القوم: أدلك على أمر يأخذ فيه كتابك، ولا يكلفك السجود فيه. قال دحية: وما هو؟ قال له: على كل عقبة منبر يجلس عليه، فضع صحيفتك وجاه المنبر، فإنه لا أحد يحرّكها حتى يأخذها هو، ثم يدعو صاحبها. قال: أما هذا فسأفعله، فعمد إلى منبر من تلك المنابر التي يستريح عليها، فألقى الصحيفة، وجاه المنبر، ثم تنحّى فجلس قريبا، فجاء قيصر فجلس على المنبر، ثم نظر إلى الصحيفة، فدعا بها، فإذا عنوانها: كتاب عربي. فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية، فإذا فيه: «من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم» . فغضب أخ لقيصر يسمى نياق، فضرب الترجمان في صدره ضربة شديدة أجلسته على استه، ثم نزعه منه، فقال: ما شأنك اختلست الصحيفة؟ قال: تنظر في كتاب رجل بدا فيه بنفسه قبلك؟ قال قيصر لنياق:

إنك و الله ما علمت أنك أحمق صغير، أو مجنون كبير، أتريد أن تخرق كتاب رجل قبل أن أنظر فيه؟ فلعمري إن كان رسول الله كما يقول، فنفسه أحق أن يبدأ بها مني، وإن كان سمّاني صاحب الروم لقد صدق، وما أنا إلا صاحبهم، وما أملكهم، ولكن الله سخّرهم لي، ولو شاء لسلّطهم عليّ كما سلّط فارس على كسرى فقتلوه.

ثم فتح الصحيفة فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم، سلام على من اتّبع الهدى. أما بعد: «يا أهل الكتاب، تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعض أربابا من دون

الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون» في آيات من كتاب الله تعالى يدعوه إلى الله، ويزهّده في ملكه، ويرغّبه فيما رغّبه الله عنه من دار الآخرة، ويحذّره بطش الله وبأسه.

فقر قيصر الكتاب فقال: يا معشر الروم، إني لأظنّ أن هذا الذي بشّر به عيسى ابن مريم عليه السلام، ولو أعلم أنه هو لمشيت إليه حتى أخدمه بنفسي لا يسقط وضوءه إلا على يديّ. قالوا: ما كان الله ليجعل ذلك في العرب الأميين، ويدعنا ونحن أهل الكتاب.

قال: فاصل الهدى بيني وبينكم عندي الإنجيل، ندعوا به فنفتحه، فإن كان هو اتّبعناه، و إلا أعدنا عليه خواتيمه كما كانت، إنما هي خواتم مكان خواتم.

قال: و على الإنجيل يومئذ اثنا عشر خاتما من ذهب، ختم عليه هرقل، فكان كل ملك يليه بعده ظاهر عليه بخاتم آخر، حتى ألفى ملك قيصر وعليه اثنا عشر خاتم بخبر أولهم آخرهم: أنه لا يحلّ لهم أن يفتحوا الإنجيل في دينهم، وأنه يوم يفتح يغيّر دينهم، ويهلك ملكهم، فدعا بالإنجيل، ففضّ عنه أحد عشر خاتما حتى إذا بقي عليه خاتم واحد قامت الشمامسة والأساقفة والبطارقة، فشقوا ثيابهم، وصكّوا وجوههم، ونتفوا رءوسهم.

قال: م لكم؟ قالوا: اليوم يملك ملك أبيك، ويتغير دين قومك. قال: فاصل الهدى، قالوا: ل تعجل حتى نسأل عن هذا، ونكاتبه، وتنظر في أمره، فإنك قادر إن شاء الله تعالى على أن تفضّ هذا الخاتم فتنظر فيه ما تريد، وإنك لا تقدر إن انفتق عليك ما تكره أن تردّه بعد فتقه. قال: فمن نسأل عنه؟ قالوا: نسأل قوما كثيرا بالشام. فأرسل يبتغي قوما يسألهم، قال: فجمع له أبو سفيان بن حرب وأصحابه، فجاء قوم كلهم لله و لرسوله عليه السلام عدو، فقال: أخبرني يا أبا سفيان، من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلم يأل أن يصغّر أمره ما استطاع، قال: أيها الملك، لا يكبر عليك شأنه، إنّا لنقول هو ساحر، ونقول هو شاعر، ونقول هو كاهن.

قال قيصر: كذلك والذي نفسي بيده كان يقال للأنبياء قبله، أخبرني موضعه فيكم.

قال: أوسطنا سطة، قال: كذلك يبعث الله كل نبي من أوسط قومه، قال: أخبرني عن أصحابه، قال: غلماننا وأحداثنا سنا والسفهاء، أما رؤساؤنا فلم يتبعه منهم أحد. قال:

أولئك و الله أتباع الرسل منذ قط، أما الملأ والرءوس فتأخذهم الحمية، قال: فأخبرني عن أصحابه هل يفارقونه بعد ما يدخلون في دينه سخطة له؟ قال: ما يفارقه منهم أحد، قال:

فلا يزال داخل منكم في دينه؟ قال: نعم، قال: ما تزيدونني عليه إلا بصيرة، والذي نفس بيده ليوشكن أن يغلب على ما تحت قدمي.

يا معشر الروم، هل إلى أن نجيب هذا الرجل إلى ما دعانا إليه؟ ونسأله الشام أن لا

توط علينا أبدا، فإنه لم يكتب قطّ نبي من الأنبياء إلى ملك من الملوك يدعوه إلى الله تعالى فيجيبه إلى ما دعاه، ثم يسأله غيرها فيسأله إلا أعطاه مسألته ما كانت، فأطيعوني. فلنجبه إلى ما دعانا إليه، ونسأله الشام أن لا توطأ. قالوا: لا نطاوعك في هذا أبدا، أتكتب إليه تسأله في ملكك الذي تحت رجليك، وهو هنالك لا يملك من ذلك شيئا، فمن أضعف منك؟ قال أبو سفيان: والله ما يمنعني من أن أقول قولا أسقط من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها عليّ فلا يصدّقني في شيء، قال: حتى ذكرت قوله ليلة أسري به، قال: قلت: أيها الملك، ألا أخبرك عنه خبرا تعلم أنه قد كذب؟ قال: وما هو؟ قال: يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة، فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلينا في تلك الليلة قبل الصباح.

قال: و بطريق إيلياء عند رأس قيصر، فقال بطريق إيلياء: قد علمت تلك الليلة.

قال: فنظر قيصر إليه وقال: وما علمك بهذا؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة أبدا حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني، فاستعنت عليه عمّالي ومن حضرني كلهم، فعالجته فلم نستطع أن نحرّكه كأنما تروّل به جبلا، فدعوت النجاجرة، فنظروا إليه فقالوا: هذا باب سقط عليه النجاف والبنيان و الأسطوانة، ولا نستطيع أن نحرّكه حتى نصبح فننظر من أين أتى. قال: فرجعت وتركت البابين مفتوحين، فلما أصبحت غدوت عليهما، فإذا الحجر الذي من زاوية المسجد مثقوب، و إذا فيه أثر مربط الدابة.

قال: فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي، وقد صلّى الليلة في مسجدنا.

فقال قيصر لقومه: يا معشر الروم، أليس تعلمون أن بين عيسى وبين الساعة نبيا بشّركم به عيسى كنتم ترجون أن يجعله الله منكم؟ قالوا: نعم. قال: فإن الله قد جعله في غيركم في أقلّ منكم عددا، وأضيق منكم بابا، وهي رحمة الله يضعها حيث يشاء، فإم أن تطيعوني فيما آمركم به، وإلا رأيتم الخيل دوابين، نواصيها بين أظهركم، فيقتل الرجال، ويستباح المال، وتسبى العيال.

قالوا: نصبر له عشر سنين؟ قال: نعم وعشرين سنة. قالوا: نصبر عشرين سنة؟ قال: نعم و ثلاثين. قالوا: نصبر ثلاثين؟ قال: نعم وأربعين. قالوا: نصبر أربعين؟ قال:

نعم و خمسين، حتى بلغ رأس المائة يزيد عشرا عشرا، فلما بلغ رأس المائة قالوا: ألك علم بهم؟ كيف هم بعد المائة؟ قال: هم بعد المائة كالدينار المضروب ثلثه هبرزي خالص، و ثلثه مغشوش، وثلث لا خير فيه. قال: ثم قال قيصر: ارجعوا عني هذا اليوم

حتى أفكّر في أمري وأدبّره، ثم اغدوا عليّ بالغداة أجمعكم. قال: فغدوا عليه حين أصبح و أشرف لهم على بيت مرتفع، فقال: يا معشر الروم، إن هذا النبي الذي بشّر به عيسى ابن مريم، فأجيبوه إلى ما دعا إليه. فلما رأى إلغاطهم وإباءهم صمت عنهم حتى سكن عنه الصوت، ثم قال: يا معشر الروم، دعاكم ملككم ينظر كيف صلابتكم في دينكم، فشتمتموه وسببتموه وهو بين أظهركم. قال: فخرّوا له سجّدا.

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!