الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


حكمة بالغة

قال عبد الملك بن مروان لسالم بن يزيد الفهمي: أي الزمان أدركت أفضل؟ وأي ملوكه أكمل؟ قال: أما الملوك فلم أر إلا ذامّا وحامدا، وأما الزمان فرفع أقوام ووضع آخرين، و كلهم يذم زمانه، لأنه يبلي جديدهم ويهرم صغيرهم، وكل ما فيه منقطع إلا الأمل، قال: فأخبرني عن فهم، قال: هم كما قال الشاعر:

درج الليل والنهار على فه‍ م بن عمر فأصبحوا كالرميم

وخلت دارهم فأضحت نعاما بعد عزّ وثروة ونعيم

وكذاك الزمان يذهب بالنا س وتبقى ديارهم كالرّسوم

قال: فمن يقول منكم:

رأيت الناس مذ خلقوا وكانوا يحبون الغنيّ من الرجال

وإن كان الغني أقل خيرا بخيلا بالقليل من النوال

فلم أدر علام وفيم هذا وما ذا يرتجون من المحال

للدنيا فليس هناك دنيا ولا يرجى لحادثة الليالي

قال: أنا وقد كتمتها.

وروين من حديث ابن ودعان، عن أبي سعيد الآملي، عن السيرافي، عن أبي سعيد، عن هبة الله بن عاصم، عن محمد بن عبيد الله الخزاعي، عن حماد بن سلمة، عن أبي هارون، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرجل يعظه: «ارغب فيما عند الله يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس. الزاهد في الدنيا يربح قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة، وإن الراغب يتعب قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة. ليجيئن أقوام يوم القيامة لهم حسنات كأمثال الجبال، فيؤمر بهم إلى النار» ، فقيل: يا رسول الله، أو يصلّون كانوا؟ قال: «كانوا يصلّون ويصومون و يأخذون وهنا من الليل، لكنهم كانوا إذا لاح لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه» .

وروين من حديثه أيضا، عن محمد بن علي، عن إبراهيم بن محمد، عن عبيد الله بن جرير، عن معاذ بن أسد، عن ابن المبارك، عن إسماعيل بن عياش، عن يحيى الطويل، عن نافع بن عمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيها الناس، إن هذه الدار دار التواء لا دار استواء، ومنزلة ترح لا منزلة فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء و لم يحزن لشقاء، ألا وإن الله خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا

لثواب الآخرة سببا، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي، و يبتلي ليجزي، وإنها لسريعة الذهاب، وشبكة الانقلاب. فاحذروا حلاوة رضاعه لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها، ولا تسعوا في غمرات دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد الله منكم اجتنابها، فتكونوا لسخطه متعرضين، ولعقوبته مستحقين» .

ولم أتى علي رضي الله عنه العراق دخل المدائن، فنظر إلى إيوان كسرى معتبرا، فجعل يبكي، فقام إليه بعض الحاضرين فقال: يا أمير المؤمنين، أتحب أن أسمعك قول الأسود بن يعفر؟ فقال: إن شئت، وعليّ يتلو قوله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ، قال: وأي آية؟ ما أعظمها، ثم قال: يا هذا، ما قال الأسود؟ فقال:

ما ذ يؤمل بعد آل محرّق تركوا منازلهم وبعد إياد

أرض الخورنق والسدير وبارق والقصر ذو الشرفات من سنداد

نزلوا بأنفرة تسيل عليهم ماء الفرات يجيء من أطواد

أرض تخيّرها لطيب نسيمها كعب بن مامة وابن أم دواد

جرت الرياح على محل ديارهم فكأنما كانوا على ميعاد

فإذا النعيم وكل ما يلهى به يوما يصير إلى بلى ونفاد

فقال علي رضي الله عنه: يا هذا، أبلغ من ذلك قول الله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وعُيُونٍ وزُرُوعٍ ومَقامٍ كَرِيمٍ ونَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ .

سمعت محمد بن أبي محمد الكتاني ينشد يوما أبياتا فأثّر بي سماعها، وهي:

لو جرى دمعك يا هذا دما ما تقدمت إلينا قدما

إنما يصفو هوانا لامرئ حفظ العهد وراعى الذمم

كيف يخفى لك أمر بعد ما نشر العذر عليه علما

عندنا منك أمور كلها حيرة فيما لدينا وعم

وأرى داءك داء معضلا أبدا تزداد فيه سقما

كم حميناك فلم تبق لنا وتعدّيت ووافيت الحمى

نح علينا أسفا أو لا تنح واقرع السنّ علينا ندما

لو أردناك لنا ما فتنا أو وصلنا حبلنا ما انصرم

ما رأينا منصفا عامله منصف في صفقة فاختصما

أنت لو سالمتنا نلت المنى قلّ من سالم إلا سلم

كان ثوبة صاحب ليلى الأخيلية قد قال:

ولو أن ليلى الأخيلية سلّمت عليّ ودوني جندل وصفائح

لسلّمت تسليم البشاشة أوزقي إليها صدى من جانب القبر صائح

ولو أن ليلى في السماء لأصعدت بطرفي إلى ليلى العيون اللوامح

فيقال: إنه لما مات ثوبة مرّ زوج ليلى بليلى على قبره، فقال لها: سلّمي على ثوبة، فإنه زعم في شعره أنه يسلّم عليك تسليم البشاشة، فقالت: ما تريد إلى من بليت عظامه؟ قال: والله لتفعلي، فقالت وهي على البعير: سلام عليك يا ثوبة فتى الفتيان. وكان قطاة مستظلة في نقب القبر، فلما سمعت الصوت طارت فصاحت، فنفر البعير ورمى بليلى، فماتت ودفنت بجنب قبره.

ويحكى أن ليلى الأخيلية دخلت على الحجاج فأنشدته قولها فيه:

إذا نزل الحجّاج أرضا سقيمة تتبّع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هزّ القناة ثناه

حجّاج لا تعطي العصاة مناهم ولا الله لا يعطي العصاة مناه

فوصلها الحجاج بألف دينار، وسألها الحجاج: هل كان بينك وبين ثوبة ريبة قطّ؟ قالت: لا والذي أسأله صلاحك، إلا أنه قال مرة لي قولا، ظننت أنه خنع لبعض شيء، فقلت له شعرا:

وذي حاجة قلنا له لا تبح بها فليس إليها ما حييت سبيل

لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه وأنت لأخرى فارغ وحليل

قالت: فما كلّمني بعد ذلك بشيء حتى فرّق بيني وبينه الموت. قال الحجاج: فما كان من بعد ذلك؟ قالت: لم يلبث أن قال لصاحب له: إذا أتيت الحاضر من بني عباد فقل بأعلى صوتك:

عف الله عنها هل أبيتنّ ليلة من الدهر لا يسري إلينا خيالها

فلما سمعت الصوت خرجت فقالت:

وعنه عفا ربّي فأصلح حاله يعزّ علينا حالة لا ينالها


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!