الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ومن الكلام الأشد في وصف الأسد

م حدثناه بعض الأدباء قال: دخل أبو زبيد الطائي على عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته، وكان نصرانيا، فقال له: بلغني أنك تجيد وصف الأسد، فقال له: لقد رأيت

منه منظرا، وشهدت منه مخبرا، لا يزال ذكره يتجدد على قلبي. قال: هات ما مرّ على رأسك منه، فقال: خرجت يا أمير المؤمنين في صبية من أفناء قبائل العرب ذوي شارة حسنة ترتمي بنا المهاري بأكسائها القيروانية، ومعنا البغال عليها العبيد يقودون عناق الخيل، نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام، فاخروط بنا المسير في جمارة القيظ، حتى إذا عصبت الأفواه، وذبلت الشفاه، وسالت المياه، وأذكت الجو المعر، وذاب الصخر الجندب، وضاف العصفور الضبّ في وجاره، قال قائلنا: أيه الركب، غوروا بنا في وضوح هذا الوادي، وإذا واد كثير الدّغل، دائم الغلل، شجراؤه معثة، وأطياره مرثة. فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات متهدلات، قاصبنا من فضلات المزاود، وأتبعناها بالماء البارد، فإنا لنصف حرّ يومنا، ومماطلته ومطاولته، إذ صرّ أقصى الخيل أذنيه، وفحص الأرض بيديه، ثم ما لبث أن جال فحمحم، وبال فهمهم، ثم فعل الذي يليه واحد فواحد، فتضعضعت الخيل، وتكعكعت الإبل، وتقهقرت البغال، فمن نافر بشكاله، وناهض بعقاله، فعلمنا أن قد أتينا، وأنه السبع لا شك، ففزع كل امرئ إليه بسيفه، واستلّ من جربانه، ثم وقفنا له زردقا، فأقبل يتطلع في مشيته كأنه مجنون، أو في هجار، لصدره مخيط، ولبلاعيمه غطيط، ولطرفه وميض، ولأرساغه نقيض، كأنما يخبط هشيما، أو يطأ صريما، وإذا هامة كالمجنّ، وخدّ كالمسنّ، و عينان شجراوان كأنهما تقدّان، وقصرة ربلة، ولهزمة رهلة، وكيد مغتبط، وزور مفرط، وساعد مجدول، وعضد مفتول، وكفّ شبيه المراثن إلى مخالب كالمحاجن.

ثم ضرب بذنبه الأرض فأرهج، وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول، مصقولة غير مغلولة، وفم أشدق كالغار الأخرق، ثم تمطى فأسرع بيديه، وحفز وركيه برجليه، حتى صار ظله مثليه. ثم أقعا فاقشعر، ثم مثل فاكفهرّ، ثم تجهّم فازبأرّ. فلا والذي بيته في السماء م اتّقيناه بأول من أخ لنا من بني فزارة، كان ضخم الجزارة، فوهصه، ثم أقعصه، فقضقض متنه، وبقر بطنه، فجعل يألغ في دمه، فدمرت أصحابي، فبعد رأي ما استقدموا، فكرّ مقشعرا لزئيرة كان بها سهما حوليا، فاختلج من دوني رجلا ذا حوابا، فنفضه نفضة، فتزايلت أوصاله، وانقطعت أوداجه، ثم نهض فقرقر، ثم زفر فبربر، ثم زأر فجرجر، ثم لحظ فو الله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه من عن شماله ويمينه، فأرعشت الأيدي، و اصطكت الأرجل، وأطت الأضلاع، وارتجت الأسماع، وجمحت العيون، وانخزلت المتون، و لحقت البطون بالظهور، وساءت الظنون، وأنشأ يقول:

عبوس شموس مصلخدّ خنابس جريء على الأرواح للقرن قاهر

منيع ويحمي كل واد يرومه شديد أصول الماضغين مكابر

برايته شتن وعيناه في الدجى لجمر الغضى في وجهه الشر ظاهر

يدل بأنياب حداد كأنها إذا قلص الأشداق عنها خناجر

فقال له عثمان رضي الله عنه: اكفف لا أم لك، فلقد أرعبت قلوب المسلمين، ولقد وصفته حتى كأنني أنظر إليه يريد يواثبني.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!