الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


قصة يحيى بن توغان ملك تلمسان وهو من خئولتن

حدثني أخوالي ووالدي رحمهم الله، قالوا: كان بتلمسان الملك يحيى، فنزل يوما في موكبه من مدينة أقادر، يريد المدينة الوسطى، وبينهما بقيع فيه قبور، فبينا هو يسير و إذا برجل متعبّد يمشي لحاجته، فمسك عنانه وسلّم عليه، فردّ الرجل العابد السلام، و كلّمه بأشياء، فكان من بعض ما كلّمه به الملك أن قال له: أيها العابد، ما تقول في الصلاة في هذه الثياب التي عليّ؟ فاستغرق العابد ضحكا، فقال له: ممّ تضحك؟ قال: من سخف

عقلك، و ما رأيت لك أيها الملك في هذا المسألة شبيها إلا الكلب. قال: وكيف؟ قال:

الكلب يتمعّك في الجيفة، ويتلطخ بدمها، فإذا أراد أن يبوّل رفع رجله حتى لا يصيبه البول، وأنت حرام كلك وتسأل عن ثيابك. فاستعبر الملك باكيا، وزل من حينه عن دابته وتجرّد من ثيابه، فرمى عليه بعض العامة من أهل الدين ثوبا، وقال لأهل دولته: انظروا لأنفسكم فلست لكم بصاحب.

واقتفى أثر العابد، فصعد معه إلى العبادة بموضع عال بقبلة تلمسان، وأقام معه ثلاثة أيام. ثم أمره العابد بالاحتطاب، فجعل الملك يحتطب ويبيع بسوق تلمسان، ويأكل ويتصدّق بالفضل، وكان الناس إذا أتوا إلى العابد يسألونه الدعاء فيقول: سلوا يحيى في الدعاء، فإنه خرج عن قدرة.

ويقال: إن ذلك العابد كان أبا عبد الله التنوسي. وقفت أنا على قبريهما وقبر الشيخ أبي مدين بالعباد بظاهر تلمسان.

روينا من حديث أحمد بن حنبل، عن أسباط بن محمد، ثنا هشام بن سعد، عن عبد الله بن عباس قال: كان للعباس ميزاب على طريق عمر، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة، وكان إذ ذاك خليفة، و كان ذبح للعباس فرخان، فلما وافى الميزاب صبّ ماء بدم الفرخين فأصاب عمر فأمر بقلعه، ثم رجع فطرح ثيابه ولبس ثيابا غير ثيابه، ثم جاء فصلّى بالناس، فأتاه العباس فقال: والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر للعباس: فأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل ذلك العباس.

وروين من مواعظ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه ذكّر الناس يوما في خلافته فقال: إنك مخلوقون اقتدارا، ومربوبون اقتسارا، ومضمّنون أجداثا، وكائنون رفاتا، ومبعوثون أفرادا، ومدينون حسابا. فرحم الله عبدا اقترف فاعترف، ووجل فعمل، وحاذر فبادر، و عمر فاعتبر، وحذر فازدجر، وراجع فتاب، واقتدى فاحتذى، فتأهّب للمعاد، و استظهر بالزاد ليوم رحيله، ووجه سبيله، وحال حاجته، وموطن فاقته، فقدم أمامه لدار مقامه. فمهّدوا لأنفسكم في سلامة الأبدان، فهل ينتظر أهل غضارة الشباب إل خوّافي الهرم؟ وأهل بضاضة الصحة إلا نوازل السقم؟ وأهل مدة البقاء إلا مفاجآت الفجا، واقتراب الفوت، ونزول الموت، وخفر الأنين، ورشح الجبين، وامتداد العرنين، وألم المضض، وغصص الحرض؟ فاتقوا الله تقية من شمر تجريدا، وجدّ تشميرا، وانكمش في مهل، وأشفق في وجل، ونظر في كره الموئل، وعاقبة المصير، و مغبة المرجع، فكفى بالله

منتقم و نصيرا، وكفى بالجنة ثوابا ونوالا، وكفى بالنار عقابا ونكالا، وكفى بكتاب الله جحيما وخصيما.

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!