الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


عناية أزلية

روينا من حديث أبي عبد الرحمن، قال: سمعت عن ابن عبد الرحمن الطوسيّ،

قال: سمعت علوس الدينوري، قال: سمعت المزني يقول: كنت مجاورا بمكة فخطر لي خاطر في الخروج إلى المدينة، فخرجت، فبينما أنا بين المسجد أمشي، فإذا أنا بشاب مطروح ينزع، فشهق شهقة كانت فيها نفسه، فكفّنته في أطمار، و دفنته، ورجعت.

وبه قال الخوّاص: كنت بمكة، فبينما أنا أطوف بالبيت نوديت في سرّي: امضي إلى بلاد الروم. فقلت: يا عجبا، أكون ببيت الله الحرام فأتركه، وأمضي إلى بلاد الروم؟ ثم هممت بالطواف، فلم أستطع، فسرت إلى بلاد الروم، فلما دخلتها سمعت الناس يقولون:

إن بنت الملك قد صرعت، وقد عرضت على الأطباء فما عرفوا لها دواء. فقلت: احملوني إليها، فأنا غلام طبيب. فحملت، فلما دخلت عليها، قلت: مرحبا يا خوّاص، فقلت: ما لك؟ قلت: كنت على ديننا حتى البارحة، وإني نمت فرأيت في المنام عرش ربي بارزا، فانتبهت كم ترى، لا ينطق لساني إلا بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلما رأوني هكذا، نسبوني إلى الجنون. فقلت: لعل الله عز وجل يخلصك منهم. قلت: فمن أين عرفت اسمي؟ قالت: نوديت: سنبعث لك من تسلمين على يديه، وألهمت ذكرك.

فهممت بالنهوض، فقالت: إلى أين؟ قلت: إلى مكة. قالت: ها هي مكة. فنظرت، فإذا مكة. فسرت قليلا، فإذا أنا بالبيت.

ومن باب سماع العارفين قوله:

قف ودّعا نجدا ومن حل بالحمى وقلّ لنجد عندنا أن تودّعا

وليست عشيّات الحمى برواجع إليك ولكن خلّ عينيك تدمع

واذكر أيام الحمى ثم انثنى على كبدي من خشية أن تصدّع

تفسيره: يقول لعقله ولنفسه: ودّعا الرفيق الأعلى، والأرواح العلى التي محله الحمى الإلهي، على أنه لا يصح مفارقته بالكنه الرقائق التي بينهما وبينه. وليست عشّيت الحمى برواجع، أي الأنوار التي تغشى حمتها إلا لطاف الخفيّة عنها، فهي بحجابها في عالم الأكوان تذكر أيامها بالحمى الإلهي، فتنعطف على كبدها، إشارة إلى عنصر الحياة التي سرت مادته في جميع الموجودات، وتصدعه وتفرقه.

ولن نظم في هذا الباب:

وزاحمني عند استلامي أوانس أتين إلى التطواف معتجرات

حسرن عن أمثال الشموس وقلن لي تودّع فموت النفس في اللحظات

فكم قد قتلنا بالمحصّب من منى نفوسا أبيات لدى الجمرات

وفي سرحة الوادي وأعلام رامة وجمع وعند النفر من عرفات

ألم تدر أن الحسن يسلب من له عفاف فيدعى سالب الحسنات

فموعدنا بعد الطواف بزمزم لدى القبة الوسطى لدى الصخرات

هنالك من قد شفه الوجد يشتفي بما شاقه من نسوة عطرات

إذا خفن أسدلن الشعور فهنّ من غدائرها في الحف الظلمات

ولنا من باب المفاريد في باب الفخر قولنا:

في كل عصر واحد يسمو به وأنا لباقي العصر ذاك الواحد


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!