الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ذكر خراب البلاد الذي يكون في آخر الزمان

روينا من حديث المياسي، أسنده إلى حذيفة، قال حذيفة: قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم، وذكر الحديث بطوله، وقد أوردناه في الكتاب في رقم 20 وفيه أن مصر آمنت من الخراب حتى تخر البصر. ثم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خراب البصرة من العراق، وخراب مصر من جفاف النيل، وخراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة من السّيل، وخراب اليمن من الجراد، و خراب الأيلة من الحصار، وخراب فارس من الصعاليك من الديلم، وخراب الديلم من الأرمن، وخراب الأرمن من الجزر، وخراب الجزر من الترك، وخراب الترك من الصواعق، و خراب السّند من الهند، وخراب الهند من الصين، وخراب الصين من الرمل، وخراب الحبشة من الرجفة، وخراب الزوراء من السفياني، وخراب الرّوحاء من الخسف، وخراب العراق من القحط.

وحدثني عبد الواحد بن إسماعيل بن إبراهيم العسقلاني الكتاني قال: حدثني أبي،

قال: قرأت في كتاب ابن عصمة في القران العاشر من المثلثة الترابية الموافقة لسنة خمسمائة وإحدى وستين من الهجرة النبوية، تكون أمور هائلة في الأقاليم الثالث والرابع، بتقدير العزيز العليم الذي أودع علم ذلك في جري الكواكب وحركات الأفلاك، كما أودع السحاب والمطر والأرض والنبات. و سائر الأسباب الإلهية المصنوعات بسياقها.

فمن ذلك ظهور ملك المشرق، فيعظم أمره، ويشتد في الآفاق خبره، ويعلو شأنه، إلى أن تصعد جناحاه إلى الغرب والقبلة، ويكون مؤيدا منصورا في جميع أموره، وذلك في أول القرآن، وهو قران زحل والمشتري العلويين، في برج الجدي في الثلث الأخير منه.

ويستولي هذا الملك المذكور على مملكة مصر ويضعفها، ويسقيها بكأس الحمام، وينغصها ويهلك أعوانها ومن يقول بقولها، وذلك من أول القرن إلى ربعه.

ويهلك الله به السودان هلاكا لا يرجى جبرانه إلى أن يعودون ذمة تحت يديه، ويقوى على بني الأصفر، ويكسرهم ثلاث مرات، ويفتح بنو الأصفر على أيامهم قرية بلبيس، ويهلك بها خلق كثير. فإذا كان الربع الثاني من القرن ظهر منه غضب، ويتفرق ملكه على ثلاث فرق، فيجوز كل منهم مكانا يجوزه برجاله وعساكره، ويكون أحد الثلث قويا، والثلثان فيهم ضعف، ويبقى الملك في عقبهم إلى نصف القرن، ثم ينتقل الكوكبان إلى الديران، و هو الثلث الثالث من القرن، ففي ذلك الزمان يتحرك صاحب الغرب في جيوش كثيرة، و عساكر غزيرة، وينزلون شرقا وغربا، ويعمر مدينة يقال لها شبرة أو صبرة، ويملئون بنيان القيروان، فيبلغ الروم ذلك، فيتحركون في الأساطيل العظيمة، فيفتحون سواحل البحر، ويخاف على الجزيرتين والإسكندرية فإذا أنزل حركة كيوان وجسده في البرج الغربي.

وحرك سبحانه عند ذلك جيوش المغرب، فينزلون قريبا من الحجر الأبيض، فيقسمون جيوشهم على ثلاث فرق فرقة تقصد الصعيد الأعلى، وفرقة تأخذ الطريقة الوسطى، وفرقة تأخذ على طريق البحر فيجتمعون بأسرهم على نيل مصر، ويكون النيل سبعة من اثني عشر حتى تغور بحيرة طبرية، وتجف العيون في جميع الأقاليم، وتغور المياه في قرار الأرض، ويعدم القوت، وتسيب البلاد، ويجوز كل واحد موضعه، ويفيض اللسان الأعوج في جميع الأقاليم، وتحرق في مصر ثالثة، ويستباح ما فيها، وتستباح دماء أهل الذمة و أموالهم، ويملك أكثرهم، ويخرب الصعيد والريفان، ويكون أمر الخلق في ضلال من بعد أن تستباح أموالهم، وتضعف أحوالهم، ويموت كثير منهم، والويل لمن يقيم في إقليم مصر، إذا أنزل الله كيوان برج السرطان وذلك في الربع الأخير من القران، فإذا نزل تحرّك

بنو الأصفر بقوة عظيمة في الأساطيل، ويفتحون مدينة الإسكندرية من بين البابين، ويدخلون فيها إلى أن يبلغوا سوق الريحان، فيقتلون خلقا كثيرا، وينقلع بنو الأصفر من الشام جميعه حتى السواحل، ويكون سبب خروجهم يظهر عليهم رجل من المشرق بغتة لا يعلمون بخروجه، وينضاف إليهم عساكر من الترك، يقتحمون بيت المقدس، والشام جميعه، ويقيمون بها دون الحول، فعند ذلك يتحرّك ملك الجزر، يقال له: ذو العرف، يخرج بعساكره برا وبحرا ويقصد بعضهم إلى الدروف، و بعضهم إلى الشام، وبعضهم إلى الإسكندرية وجزائر البحر.

ويقع بينه وبين الترك خمس وقعات إلى أن تجري دماؤهم كالنهر، وفي عقب ذلك تنتصر جيوش الغرب بقوة عظيمة مائة ألف أو أكثر، وتعود دفعة ثانية إلى مصر، ويضربون خيامهم من الترك وعسقلان وطبرية، ثم يخرج السفياني بعساكر عظيمة، فيقتلهم حتى لا يبقى منهم أحد، ويوجه السفياني جيشين: جيشا إلى الكوفة فيقتل حتى لا يبقى منهم أحد أصلا، وأما الجيش الآخر فيأتي إلى مدينة يثرب فيستبيحها ثلاثة أيام، ثم يرحل يطلب مكة فيخسف به في البيداء فلا يسلم منهم أحد سوى رجلين، أحدهما من جهينة فهو الذي يأتيه بالخبر، ثم يخرج المهدي فيقتل السفياني ذبحا تحت شجرة بخارج دمشق، ويبايع بين الركن والمقام، فيملأ الأرض قسطا وعدلا، ثم يغزو القسطنطينية بعساكر في جملتهم سبعون ألفا من ولد إسحاق فيكبّرون عليها فينهدم ثلثها، ثم يكبّرون ثانية فينهدم الثلث الثاني، ثم يكبّرون ثالثة فينهدم سورها كله فيدخلونها فيكسبون فيه أموالا عظاما، ثم يخرج الدجال فيلبث أربعين يوما، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، فينزل عيسى عليه السلام بين مهرودتين عند المنارة البيضاء بشرقي دمشق، فيصلي العصر بالناس ويطلب الدجال فيقتله بباب لدّ ويخرج يأجوج ومأجوج.

وقد ذكرنا حديثهم في هذا الكتاب، فينحصروا في جبل الطور، في القلعة التي بناها الملك المعظم ابن الملك العادل، بنيان عيس لعيسى، وأرجو أن يدعو لبانيها، فلا يزال محصورا بها داعيا في هلاك يأجوج ومأجوج، فيموتون موت رجل واحد بداء النفف كم ذكرنا. ثم يخرج عيسى عليه السلام وتخرج الأرض خيرها وبركتها، فيتزوج ويولد له، ثم يموت فيدفن بالمدينة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ويرسل الله ريحا ليّنة تحت العرش تأخذ المؤمنين من تحت آباطهم فيموتون، فيبقى شرار الخلق عليهم تقوم الساعة.

ومن وقائع بعض الفقراء إلى الله تعالى، ما حدثنا به عبد الله ابن الأستاذ قال: رأى بعض المريدين في الواقعة أبا مدين جالسا في روضة من نور، وأشياخ الصوفية قد أحدقوا

به، وأحدقت بالجميع صور لم أر أحسن منها ولا أجمل، وعليهم من نفائس الجواهر واللآلئ ما لا أستطيع وصفه، ولا أحسن العبارة عن نقشه، وعلى رأس أبي مدين ثلاثة ألوية من نور، مركوز واحد عن يمينه مكتوب عليه: حسبي الله، وواحد على رأسه وهو أعلاها مكتوب عليه: الله، والآخر على يساره مكتوب عليه: لا حول و لا قوة إلا بالله.

فقال أبو حامد لأبي مدين: يا شيخ، تكلم لنا على هذه الأسماء المكتوبة على هذه الألوية، فقال الشيخ: أما هذا الاسم الذي هو الله، فهو الاسم الأعظم الذي هو رأس الأسماء، و إليه يرجع كل معنى، وهو المنزّه المتبوع الذي به ظهرت المخلوقات، وعليه أسست الأرضون والسموات، وعنه صدرت الأسماء والصفات، فالمصنوعات بأسرها من العرش إلى الثرى تشهد بأنه موجدها، وما من ذرّة في الأرض ولا في السماء ولا رطب ولا يابس إلا وهو معها.

فقال له أبو حامد: فما معنى حسبي الله؟ فقال: هو أمن وأمان من أن تغدو عليه النيران، فمن تخلّق به سلم وصفا، وكان ممن وفا حين وفا. فقال: ما معنى لا حول ولا قوة إل بالله؟ فقال: هو التبرّي من باطن الأحوال، وردّها إلى ظاهر الأقوال والأفعال، ثم ردّها إلى ذي الكلام والجلال. فهذه وما عداها راجعة إلى الاسم الأعظم الذي هو مبدأها ومنتهاها، فهو الاسم الذي حنّ به بعض كل شيء إلى بعض، وهو نور السموات و الأرض، فإذا تجلى من نوره لمعه كان الله ولا شيء معه، ثم قال له: قل لنا في التوحيد شيئا.

فقال: التوحيد سرّي، ووطني، ومستقرّي، وسكني، وهو مبدأي، ومنتهاي، وهو الأساس لبناي، خصّني الله منه بفضائل، وأكرمني منه بدلائل، إن نزعت إلى سبب من الأسباب نوديت: اذكر ربك لا تذكر الأسباب. فالتوحيد يجلي كل ظلمة، وهو الرافع لكل ذي همة، هو القطب الذي عليه المدار، وبه أشرق الوجود واستنار.

ثم قال أبو حامد: ما هي مادة الله في الوجود؟ فقال: مادة الله في الوجود تسري، وعلى م سبقت به المقادير تجري، قد سترها الغيب، فهي منزّهة عن النقص والعيب، فقد أخفاه الله سبحانه عن الكائن والبائن، وجفّ القلم بما هو كائن فسترها عن خلقه من وجوه الرحمة والعطف، وتغيّبها عنهم من كمال الجود واللطف.

ولنا من باب الرموز والإشارات العلوية:

قالت عجبت لصبّ من محاسنه يختال ما بين أزهار ببستان

فقلت لا تعجبي مما ترين فقد أبصرت نفسك في مرآة إنسان

ولنا من باب اللطائف الربانية:

بأثيلات النقا سرب قطا ضرب الحسن عليه طنبا

وبأجواز الفلا من أضم نعم ترعى لديها وظب

يا خليليّ قفا واستنطقا رسم دار بعدهم قد خربا

واندبا قلب فتى فارقهم يوم باتوا وابكيا وانتحب

عله يخبر حيث يمموا الجرعاء الحمى أم لقبا

رحّلوا العيس ولم أشعر بهم السهو كان أم طرف نب

لم يكن ذاك ولا هذا وما كان إلا وله قد غلبا

يا هموما شرّدت وافترقت خلفهم تطلبهم أيدي سب

أي ريح نسمت ناديتها يا شمالي يا جنوبي يا صبا

هل لديكم خبر مما بنا قد لقينا من هواهم نصب

أسندت ريح الصبا أخبارهم عن نبات الشيخ عن زهر الرّبا

إن من أمراضه داء الهوى فليعلل بأحاديث الصّب

ثم قالت يا شمال خبّري مثل ما خبّرته أو أعجبا

ثم أنت يا جنوب حدّثي مثل ما حدّثته أو أعذب

قالت الشمأل عندي فرج شاركت فيه الشمال الأزيبا

كل سوء في هواهم حسن وعذاب برضاهم عذّب

فإلام وعلام ولما تشتكي اللبث وتشكو الوصبا

وإذا ما وعدوكم ما ترى برقه إلا بريقا خلّب

رقم الغيم على ردن الغما من سنان البرق طرازا مذهبا

فجرت أدمعها منها على صحن خدّيها فأذكت لهب

وردة ثابتة من أدمع نرجس يمطر غيث عجبا

ومتى رمت جناها أرسلت عطف صدغيها عليها عقرب

تشرق الشمس إذا ما ابتسمت ربّ ما أنور ذاك الحببا

يطلع الليل إذا ما أسدلت فاحما جثلا أثيثا غيهب

يتجارى النحل مهما تفلت ربّ ما أعذب ذاك الشنبا

وإذا مالت أرتنا فننا أي رنت سلّت من اللحظ ظب

كم تناغي بالنقا من حاجر يا سليل العربيّ العربا

أنا إلا عربيّ ولذا أعشق البيض وأهوى العرب

لا أبالي مشرق الوجد بنا حيثما كانت به أو غرب

كلما قلت إلا قالوا أما وإذا ما قلت هل قالوا أبا

ومتى ما أنجدوا أو اتهموا أقطع البيدا أحثّ الطلب

سامريّ الوقت قلبي كلما أبصر الآثار يبغي المذهبا

وإذا ما غرّبوا أو شرّقوا كان ذو القرنين يقفو السّبب

كم دعونا بالوصال رغبا كم دعونا من فراق رهبا

يا بني الزوراء هذا قمر عندكم لاح وعندي غرب

خربي والله منه حربي كم أنادي خلفه وا حربا

لهف نفسي لهف نفسي لفتى كلما غنّى حمام غيّب

حدثنا محمد بن علي ابن أخت المقري، حدثنا محمد بن أحمد بن علي، حدثنا محمد بن برار، نبأ عبد الله بن قاسم، حدثنا محمد بن القاسم، عن أبيه، عن علي بن حرب، عن أسباط بن محمد، عن هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من انقطع إلى الله كفاه الله كل مئونة، ومن انقطع إلى الدنيا وكّله الله إليها، ومن حاول أمرا بمعصية الله كان أبعد له مما رجا و أقرب مما اتقى، ومن طلب محامد الناس بمعاصي الله عاد حامده منهم ذامّا، ومن أرضى الناس بسخط الله وكّله الله إليهم، ومن أرضى الله بسخط الناس كفاه الله شرهم، ومن أحسن فيما بينهم وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه» .

وحدثن علي بن عبد الله بن عبد الرحمن، نبأ شعبة، عن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله عبدا تكلم فغنم، أو سكت فسلم، إن اللسان أملك شيء للإنسان، ألا وإن كلام العبد كله عليه، إلا ذكر الله، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو إصلاح بين المؤمنين» . فقال له معاذ بن جبل: يا رسول الله، أنؤاخذكم بما نتكلم به؟ قال: «و هل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إل حصائد ألسنتهم؟ فمن أراد السلامة فليحفظ ما جرى به لسانه، وليحرص على ما انطوى عليه جنانه، وليحسن عمله، وليقصر أمله» . ثم لم تمض أيام حتى نزلت هذه الآية: ل خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِل مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ .


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!