الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


فتنة إلهية أضل بها من شاء

أخبرني بمكة رجل ثقة من التجار، يقال له ابن صوّاف من أهل الإسكندرية، وكان عدلا صالحا، ثبت الحديث فطنا، ولا أزكى على الله أحدا.

قال لي: أخبرني بعض التجار أنه أتجر ببعض بلاد الهند، فعامل رجلا من أهل ذلك البلد إلى أجل معلوم، فتوفي التاجر الهندي قبل حلول الأجل بغتة، فأسف التاجر الغريب على تلاف ماله، فقصد دار الهندي ليشهد جنازته، باكيا على ما كان له قبله، فقال له بعض أهل الميت: ما شأنك تكثر البكاء؟ فذكر ما له قبل الميت، فقال له: لا بأس عليك تأخذ مالك موفّى، فقال: وكيف ذلك؟ فقال له: إن الميت عندنا يحييه الله بعد ثلاثة أيام من دفنه، فيفتح دكانه إن كان صاحب دكان، ويذكر ما له وما عليه في جريدته، ويعطي للناس ما لهم في قبله من الحقوق، فإذا لم يبق عليه تبعة قام وأغلق دكانه، وسلم المفاتيح للورثة، وانصرف من حيث جاء لا يتبعه أحد، فلا نراه بعد ذلك. قال التاجر: فتعجب لخبره وهان عليّ تلف المال بمشاهدة هذه الأعجوبة.

قال: ثم إنّا تبعنا الجنازة حتى دفناه، وبقيت أترقب، فلما كان بعد ثلاث نادى مناد في البلد: معشر الناس، من كان له عند فلان الذي مات حق فليأت إلى دكانه، فقد قعد يعطي الناس حقوقهم.

قال: فأسرعت إلى الدكان فوجدت صاحبي بعينه لا أنكر منه شيئا وجريدته في يده، ومن له عنده شيء قد حضر، فما زال ينظر في الجريدة ويقول: أين فلان؟ فيجيبه، فيقول:

كم تسألني؟ فيقول له: كذا وكذا، فيعطيه، إلى أن دعاني باسمي فقال: كم تسألني؟ فقلت: كذا وكذا، فنظر في الجريدة، فقال: صدقت، فوافاني حقي وشكرني، واعتزلت أنظر آخر أمره وإلام يؤول، فلما جاء وقت العصر وتمكن، فرغ من شغله، وقفل الحانوت، و انصرف الناس، وأخذ المفاتيح وأسلمها للورثة، وسلّم عليهم، وانصرف، فلم يتبعه أحد، فانصرفت خلفه أسأله عن شأنه، فإني رأيت عجبا، فما دخل زقاقا إلا وأنا خلفه أجهد نفسي في أثره، فلما ألححت عليه وقف وقال: يا هذا ألم تأخذ حقك؟ قلت:

بلى. قال: فانصرف. قلت له: أريد أن أعرف شأنك، فإني ما شككت في موتك و دفنك فكيف قضيتك؟ وأقسمت عليه أن يخبرني. فقال: نعم أخبرك، أما صاحبك التاجر الهندي فقد انتقل إلى لعنة الله، وأما أنا فملك على صورته أرسلني الله تعالى، ففعلت ما رأيت ليفتنهم الله تعالى، وقد أجرى الله لهم العادة في ذلك، فلست صاحبك، فانصرف عافاك الله حتى أنصرف.

قال التاجر: ثم التفتّ فلم أره، وقد عرفت خبره، وكتمته في نفسي، وجبر الله عليّ مالي.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!