الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ومن خبر أسعد تبّع الذي كسا الكعبة، وتوجه إلى مكة، وما اتفق له في نار اليمن

روينا من حديث ابن إسحاق، قال: كان تبّع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فوجّه إلى مكة وهي طريقه إلى اليمن حتى إذا كان بين عسفان والح، أتاه نفر من هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر، فقالوا: أيها الملك، ألا ندلّك على بيت المال وأثر غفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؟ قال: بلى. قالوا: بيت مكة يعبده أهله، ويصلّون عنده، وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك، لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك، وبغى عنده، فلما أجمع رأيه، قالوا: أرسل إلى حبرين كانا عنده، فسألهما عن ذلك، فقالا: ما أراد القوم إلا هلاكك، وهلاك جندك، ما نعلم بيتا لله اتخذه في الأرض لنفسه غيره. ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن، ويهلكن من معك جميعا.

قال: فم ذا تأمراني أن أصنع؟ قالا: إذا قدمت عليه تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به، و تكرمه، وتعظمه، وتحلق رأسك عنده، وتذلل حتى تخرج من عنده. قال:

فم يمنعكما أنتما من ذلك؟ قالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم، وإنه لكم أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله، بالدماء التي يهرقون عنده وهم نجس أهل شرك.

فعرف نصحهما، وصدق حديثهما، وقرّب النفر من هذيل، فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم مضى حتى قدم مكة، فطاف بالبيت، ونحر عنده، وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها للناس، ويطعم أهلها، ويسقيهم العسل.

ورأى في المنام أن يكسو البيت، فكساه الخصف، وهي ثياب غلاظ جدا. ثم رأى أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه المغافر. ثم رأى أنه يكسوه أحسن من ذلك، فكساه الملا والوصائل. وأوصى بالبيت ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وأن لا يقربوا إليه دماء ولا ميتة، ول ميلغا، وهي المحائض. وجعل له بابا ومفتاحا، فكان تبّع فيما يروى أنه أول من كس البيت، وقال تبّع في ذلك وفي مسيره:

وكسون البيت الذي حرّم الله ملاء معصبا وبرودا

وأقمنا به من الشهر عشرا وجعلنا لنا به أقليد

وخرجنا منه نؤم سهيلا قد رفعنا لواءنا معقودا

و في ذلك تقول سبيعة بنت الأجبّ بن ربيبة بن حذيمة بن عوف بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن لابنها خالد بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب بن لؤيّ، تعظم عليه حرمة مكة وتنهاه عن البغي فيها، فذكرت تبّعا وما كان منه في تعظيم الكعبة حيث يقول:

ابني ل تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير

واحفظ محارمها ولا يغررك بالله الغرور

ابني من يظلم بمكة يلق أطراف الشرور

ابني يضرب وجهه ويلح بخديه السعير

ابني قد جرّبتها فوجدت ظالمها يبور

الله آمنها وما بنيت بعرصتها قصور

والله آمن طيرها والعصم تأمن في ثبير

ولقد غزاها تبّع وكسا لبنيتها الحرير

وأذلّ ربي ملكه فيها فأوفى بالنذور

يمشي إليها حافيا بفنائها ألفا بعير

ويظل يطعم أهلها لحم المهاري والجزور

يسقيهم العسل المصفّى والرخيص من الشعير

والفيل أهلك جيشه يرمون فيها بالصخور

والملك في أقصى البلاد وفي الأعاجم والجزير

فاسمع إذا حدّثت واف‍ هم كل عاقبة الأمور

قال ابن إسحاق: ثم خرج تبّع متوجها إلى اليمن بمن معه من جنوده وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه، فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن.

وقيل: لما جاء يدخل اليمن حالت حمير بينه وبين الدخول، قالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا، فقال لهم تبّع: إنه خير من دينكم، قالوا: فحاكمنا إلى النار، قال تبّع:

نعم. و كان في اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه تأكل الظالم ولا تضر بالمظلوم، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديهما حتى قعدوا للنار عبد مخرجها الذي تخرج منه، فخرجت النار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فزأرهم من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها،

فصبرو حتى غشيتهم، فأكلت الأوثان وما قرّبوا معها وما حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما لم تضرّهما، فأصقعت حمير عند ذلك على دينه. فعند ذلك كان أصل اليهودية باليمن.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!