الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


موعظة عطاء بن أبي رباح لعبد الملك بمكة

حدثن محمد بن إسماعيل، ثنا عبد الرحمن بن علي، انا عبد الوهاب، انا جعفر بن أحمد، ان عبد العزيز الضرّاب، أخبرني أبي، ثنا أحمد بن مروان، ثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا الرياشي، قال: سمعت الأصمعي يقول: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك وهو جالس على سريره وحواليه الأشراف من كل بطن، وذلك بمكة في وقت حجّه في خلافته، فلما بصر به قام إليه وأجلسه معه على السرير، وقعد بين يديه، وقال له: يا أب محمد، ما حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، اتق الله في حرم الله ورسوله فتعاهده بالعمارة.

واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنك بهم جلست هذا المجلس. واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن للمسلمين. وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسئول عنهم. و اتق الله فيمن على بابك، ولا تغفل عنهم، ولا تغلق دونهم بابك. فقال له: أفعل. ثم نهض فقبض عليه عبد الملك فقال: يا أبا محمد، سألتنا حوائج غيرك فقد قضيناها، فما حاجتك؟ فقال: ما لي إلى مخلوق من حاجة، ثم خرج. فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد.

ومن وقائع بعض الفقراء إلى الله تعالى ما حدثناه عبد الله ابن الأستاذ المروزي، قال: قال بعض المريدين: رأيت أبا مدين، وأبا حامد، وأبا طالب، وأبا يزيد، وجماعة من الصوفية، فقال أبو يزيد لأبي مدين: تكلم لنا في شيء من التوحيد. فقال: التوحيد هو الحق، وإليه الملجأ لأهله، وبه النجاة. هو السر الخفي، به ظهرت الأسرار، وهو الشمس المشرقة، ومنه ينابيع الأنوار. وهو قطب العارفين، وهو الدليل، ومبرئ الأسقام، وشفاء كل عليل. هو الظاهر، فما سواه حجابه، فمن كان ذا بصر جاوز أبوابه، كشف له عن ملكه، فعاين سلطانه، وغيّبه به عنه، فعظّم شأنه. فبين العارف وبين ربه سر وقر في صدره، وحكم بمدّه بها من غيبه، فهي غذاؤه وشرابه، مظهر له حقيقة التوحيد ولبابه، امتاز بها عن سائر الخلق، فواصلته وأجلسته في حضرة الحق، اختصه بالعلوم الأزلية العجيبة. فحقيقته من الحق دانية قريبة، بلا حركة من معنى إلى معنى، ولا انتقال، ولا ماض، ولا مستقبل، ولا حال. هو بسر العارف مكشوف، أمدّه به من خفيّ سرّه، فسرّه

من سره معروف. فجملة المحسوسات عدم وهبا. فحقّق ببصيرتك تنظر عجبا، تجد القائم في كل الخطرات واللحظات مشاهد، إذ هي أغطية يستر بها إذ هو في الوجود واحد.

فالمعرفة في حق كل مصنوع وضعه، فكل مفترق هو أصله وجمعه. بذلك شهدت الظواهر على غيبها، فهو المبدئ لكل شيء والمعيد، والفعّال في ملكه يفعل ما يريد. فجملة هذه العلوم عرفه العارفون، وجهلها الأكثرون، وعلم تأويلها الراسخون، وما يعقلها إلا العالمون.

وروين من حديث الهاشمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، بسط الأمل مقدّم على حلول الأجل، والمعاد مضمار العمل، فمغتبط بما احتقب، غانم، و مبتئس بما فاته من العمل، نادم. أيها الناس، إن الطمع فقر، واليأس غنى، والقناعة راحة، والعزلة عبادة، والعمل كنز، والدنيا معدن. والله ما يسرّني ما مضى من دنياكم هذه بأهداب بردي هذا، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء. وكل إلى نفاد وشيك، وزوال قريب، فبادروا وأنتم في مهل الأنفاس، وجدّة الأحلاس، قبل أن يؤخذ بالكظم، ولا يغني الندم» .


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!