الفتوحات المكية

الاصطلاحات الصوفية

ملخص من المعجم الصوفي من تأليف الدكتورة سعاد الحكيم

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


83. بلقيس

في القرآن:

لم يرد الاسم [ بلقيس ] في القرآن انما أشار إليها في القصة المعروفة مع سليمان بـ “ امرأة “

“. .. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ. .. “[ 27 /23 ].

عند الشيخ ابن العربي:

تأخذ بلقيس عند الشيخ ابن العربي عدة وجوه تتفاوت في تضاربها، وهذ نادر جدا ما يحدث في نصوص الشيخ الأكبر، الذي عودنا صفاء فكر ووضوح منطق ووعي متكاملا لكل ابعاد كلامه. فما سر هذا التضارب في “ بلقيس “ ؟ وكيف نظر إليها ؟

بلقيس أنثى متولدة بين الانس والجن - أبوها من الجن وأمها من الانس.

يقول في شرح ترجمان الأشواق ص 15:

“. .. وسماها بلقيسا لتولدها بين العلم والعمل، فالعمل كثيف والعلم لطيف كما كانت بلقيس متولدة بين الجن والانس، فإن أمها من الانس وأباها من الجن.

ولو كان أبوها من الانس وأمها من الجن لكانت ولادتها عندهم.

وكانت تغلب عليها الروحانية ولهذا ظهرت بلقيس عندنا “

يمكن تفصيل هذا النص إلى قسمين:

الأول يفيد تولد بلقيس بين الجن والانس ،

والثاني: يفيد ظهورها في دنيا الانس.

فمن حيث تولدها بين الانس والجن هذا منبع الاشكال والتضارب في نصوص الشيخ الأكبر ولنا عودة اليه.

اما ظهورها في عالم الانس، الذي يرجعه الشيخ ابن العربي إلى كون، أمه من الانس.

فهذا منسجم تماما مع مجمل أفكاره لأنه يرى أن الام محل التكوين والاستحالات، وبالتالي مكان الظهور [ راجع “ أم “ ] لذلك بلقيس ظهرت تبعا لامها، فكانت ولادتها عند الانس.

وانسجام القسم الثاني من النص مع موقف الشيخ ابن العربي عامة يزيد من حدة تباينه مع القسم الأول، ويقتضي ضرورة البحث عن سبب هذا الاشكال.

وهذا ما سنفعله في نهاية شرحنا لهذا المصطلح.

لم يستمر الشيخ ابن العربي في رؤيته لبلقيس على أنها متولدة بين الانس والجن، بل نفى ذلك ناعتا إياه بالمرويات والمقولات. ..

يقول: “. .. قالت بلقيس: كأن هو 1.

وهو كان لم يكن غيره، فطلبنا عين السبب الموجب لجهلها به، حتى قالت كأنه هو.

فعلمنا ان ذلك حصل لها من وقوفها مع الحركة المعهودة في قطع المسافة البعيدة. وهذا القول الذي صدر منها يدل عندي ،

انها لم تكن، كما قيل، متولدة بين الانس والجان، إذ لو كانت كذلك لم بعد عليها مثل هذا من حيث علمها بأبيها، وما تجده في نفسها من القوة على ذلك، حيث كان أبوها من الجان على ما قيل. .. “ ( ف 2 / 495 ).

يستند الشيخ ابن العربي هنا إلى دليل قرآني لنفي تولد بلقيس بين الانس والجن:

“ كأنه هو “ [ 27 / 42 ] في صيغتها التعجبية تنفي انتماء بلقيس إلى الجن، الذي في قوته قطع المسافات البعيدة في الوقت القصير وغير ذلك.

فجملة “ كأنه هو “ تشهد بانسيتها الكاملة وتجعل تولدها بين الانس والجن من المرويات التي تفتقر إلى سند واثبات.

ليست بلقيس انثي عادية من الانس، ولكنها ذات منزلة فقهية استطاعت ان تتنزه عن التقيد في اعتقادها في اللّه، فجاء ايمانها غير متقيد، من نفس طبيعة انقياد الرسل. واسلامها هذا بالدليل القرآني الذي سيورده الشيخ ابن العربي في النص، يعبر عن تفوقها وتفردها وبالتالي اهتمام شيخنا الأكبر بها كشخصية “ انثوية “ متفوقة.

يقول:

“. .. ولما رأت بلقيس عرشها مع علمها ببعد المسافة واستحالة انتقاله في تلك المدة عندها 2، “ قالت كأنه هو. “ [ 27 / 42 ]

وصدقت بما ذكرناه من تجديد الخلق بالأمثال 3، وهو هو 4، وصدق الامر، كما انك في زمان التجديد، عين ما أنت في الزمن الماضي 5. ..

فقالت. . .” رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ “[ 27 / 44 ]:

اي اسلام سليمان :” لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ “[ 27 / 44 ].

فما انقادت لسليمان وانما انقادت للّه رب العالمين، وسليمان من العالمين. فما تقيدت في انقيادها كما لا تتقيد الرسل في اعتقادها في اللّه، بخلاف فرعون فإنه قال” رَبِّ مُوسى وَهارُونَ “[ 26 / 48 ]. .. فكانت أفقه من فرعون في الانقياد للّه. .. “ ( فصوص 1 / 156 - 157 )

تعليق على تضارب النصوص: لا تتضارب نصوص الشيخ الأكبر الا فيما فيم ندر، وهذه من الحالات النادرة عنده، فما هو تفسيرنا لها ؟.

[ الحقيقة اننا نستطيع ان نقدم تفسيرين ]:

أولهما:

ان الشيخ الأكبر اعتمد في البداية الروايات القائلة بتولد بلقيس بين الانس والجن ثم لم يلبث ان تحقق بنفسه من الامر، بالرجوع إلى القرآن وفهمه لاشاراته. كما لاحظنا ذلك في اعتماده على إشارات القرآن لاثبات انسية بلقيس الكاملة.

ونؤيد كلامنا برجوعنا إلى تاريخ كتابة كل من النصوص التي اعتمدناها:

- فالنص الذي يجعل تولد بلقيس بين الانس والجن مأخوذ من كتاب “ الذخائر والاعلاق في شرح ترجمان الأشواق “ الذي كتبه في حلب عام 611 هـ شرحا لديوانه ترجمان الأشواق الذي الفه في مكة عام 598 هـ.

- النصان الباقيان اللذان ينفي بهما موقفه السابق ويؤكد على انسية بلقيس الكاملة ومرتبتها الفقهية، مأخوذان من كتابيه “ الفتوحات المكية “ و “ فصوص الحكم “. والفتوحات كتبه الشيخ ابن العربي مرتين: الأولى 598 هـ - 629 هـ والثانية 632 هـ - 636 هـ، اما الفصوص فقد أنهاه في دمشق عام 627 هـ.

وهذا يؤكد ان آخر كتاباته اي الفصوص كان فيها مرجحا لرأيه في الفتوحات ومؤكدا له بما لا يدع مجالا للشك.

اذن بدّل الحاتمي رأيه في النهاية بخصوص بلقيس. هذا تفسير أول.

ثانيهما:

ان النص الوحيد الذي يشير إلى تولد بلقيس بين الانس والجن، موجود في كتابه “ الذخائر والاعلاق “ الذي هو شرح لديوانه “ ترجمان الأشواق “. إذا كلام الشيخ ابن العربي عن بلقيس هنا جاء في مضمون وجو شعريين.

فمن الجائز ان يكون الشيخ ابن العربي قد انساق متأثرا بالشعر وبم يكتنف المرأة في هذا الجو الغامض. .. جو الشعر، من ابعاد. . فقبل لها انتماءات، ل يؤيدها سوى حالته الشعرية امام المرأة عند كتابته الديوان.

وهذا التفسير لا يؤكد تبدل رأي الحاتمي، بل تنوعه وغناه تبعا لتغير أحواله، شاعرا ومفكرا. .. وكلها وجوه لا نستطيع ان ننكرها في شخصية الشيخ الأكبر الفذة.

..........................................................................................

( 1 ) عندما رأت بلقيس العرش في صرح سليمان يشبه عرشها الذي تركته في سبأ، تعجبت وأجابت: كأنه هو. عندما سئلت هل هذا عرشك ؟

( 2 ) كلمة “ عندها “ تفيد هنا انه مستمر على المعنى الثاني الذي يفيد كونها من الانس، لا يخالطها أصل من الجن. لذلك رأت استحالة انتقال العرش في تلك المدة الزمنية القصيرة.

( 3 ) يفسر الشيخ ابن العربي انتقال عرش بلقيس بالخلق الجديد، اي ان العرش قد فني في مكانه الأول وفي اللحظة نفسها وجد عند سليمان. .. انظر “ خلق جديد “.

( 4 ) العرش “ هو هو “، لأنه في الخلق الجديد يلتبس الامر بخلق المثل، اي يفنى الشيء ويوجد مثله في اللحظة نفسها فالالتباس نابع من وجود المثل، فلا نحس بفناء الشيء لعودته في مثل صورته لذلك قالت بلقيس، عندما عاد العرش في صورته التي فني عليها: “ كأنه هو. “ و “ هو هو “. انظر خلق جديد.

( 5 ) زمان التجديد: الخلق الجديد، خلق المثل، انظر “ خلق جديد “.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!