الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


118. الموقف الثامن عشر بعد المائة

قال تعالى: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ﴾[الزخرف: 43/ 24].

اعلم: أن الهدى أنواع، كما أن الضلال أنواع، والموصوفون بالهدى والضلال أنواع: فمهتد، وأهدى، وأعظم هدى، وضال، وأضل، وأعظم ضلالاً.

فالمهتدي هو الذي حصل على الهداية بالدليل العقلي والبرهان، والأهدى هو الذي حصل على الهداية بتصديق الرسل والإيمان، والأعظم هدًى هو الذي حصلت له الهداية بالكشف والعيان.

والضال هو الذي شبه الحق بمخلوقاته تشبيهاً مطلقاً أو نزهه تنزيهاً مطلقاً وما اهتدى إلى الجمع بينهما بمعرفة مرتبة كل واحد منهما. والأضلّ هو الذي صوّر إلهه بصورة محسوسة، كعابد الشمس والنار والأحجار والملائكة والجن، ونحو ذلك، كم قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ﴾[الأحقاف: 46/5].

والأعظم ضلالاً هو المعطّل للخالق تعالى ـ، كالهدرية والطبائعية، على مقتضى أقوالهم وإلاَّ فلا معطل في المعنى.

وكل مرتبة من مراتب الهدى هي ضلال بالنسبة إلى ماهي أعلى منها، فهدى العقل ضلال بالنسبة إلى هدى أهل الشهود والعيان، فإن المؤمن وإن عظم إيمانه لابدَّ أن تنازعه نفسه، ولا يطمئن الاطمئنان الكامل إلاَّ بالشهود، كما أن كلّ مرتبة من مراتب الضلال هي هدى بالنسبة إلى ما هي أشد منها، فضلال العقلاء هداية بالنسبة إلى ضلال من عبد صورة من الصور، من نار وشمس ونحوهما، وضلال عابد الشمس ونحوها هدى بالنسبة إلى ضلال المعطّل. ولهذا قال: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ﴾[الزخرف: 43/ 24].

والذي وجدوا عليه آبائهم هو عبادة الصور من الأوثان والأصنام، والذي هو أهدى منه تصديق الرسول يما جاء به عن الله تعالى فما وجدوا عليه آباءهم هدى بالنسبة إلى ضلال المعطل، كما قال تعالى في الآية الأخرى.

﴿وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾[الفرقان: 25/ 42].

فالكل مجتمعون في الضلال، بمعنى الحيرة في طلب الحق تعالى ـ، كما ورد في الخبر: «وإنَّ الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه».

فما انفك مخلوق أي مخلوق كان حتى المخلوق الأول عن الضلال، بمعنى الحيرة في الذات العلية، ولكن الضالين متفاوتون في الضلال. وقال تعالى: ﴿فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾[الإسراء: 17/ 84].

وفي كل نوع من أنواع الضلال والهدى أشخاص لا تكاد تنحصر إلاَّ للخالق تعالى ـ، فناقص، وكامل، وأكمل، في النوعين، ومابين ذلك، فالكل مهتد من وجه، والكل ضال من وجه.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!