الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


117. الموقف السابع عشر بعد المائة

قال تعالى: حكاية عن إبليس: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾[ص: 38/ 82- 83].

اعلم أن الغي هو الضلال عن المقصود، والإغواء هو الإضلال عن المقصود، والإغواء هو الإضلال عن المقصود والمطلوب منه. وبنو آدم في تعرض إبليس لهم ونفوذ ضرره فيهم على أقسام: منهم من يتعرض له فينفذ ضرره فيه ظاهراً وباطناً،  وهم عامة بني آدم، سواء منهم المؤمن وغير المؤمن. ومنهم من يتعرَّ له ظاهراً و باطناً فينفذ فيه ضرره ظاهراً لا باطناً، وهم الكمّل من الأولياء ورثة الأنبياء، فإنهم يقلبون ما يأتيهم به من الشرّ إلى الخير، فيربحون بتعرضه، فيجد لذلك غيظاً وحسرة. وهذا أشد ما يلاقي إبليس من أولياء الله، حيث رجع سهمه عليه، وعاد وبال فعله إليه، ومنهم من يتعرض له ظاهراً لا باطناً لعلمه بأن تعرضه لهم في بواطنهم لا ينفذ لعصمتهم، وهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ـ ولذا استثناهم بقوله: ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾.

قرئ باسم الفاعل واسم المفعول. وثمرة هذا الاستثناء وإن حصلت لبعض الكمّل غير الأنبياء فذلك من بركة متابعتهم الأنبياء، وإلاَّ فالمقصود بالقصد الأول هم الأنبياء؛ وعدم تعرضه لهم في بواطنهم بمعنى أنه لا يزيّن لهم المعصية، ويحسّن لهم المخالفة من حيث لا يعرفونه، وبعدهم ويمّنيهم كما يفعل مع غير الأنبياء، لا عدم التعرض مطلقاً، فإن تعرضه لهم ظاهراً وارد في الكتب الإلهية، والأخبار النبوية، من غير أن يؤثر ذلك في مقاماتهم العلية، وأحوالهم البهيّة، وحقيقة المعصية هي فعل محرم وقع عن قصد إليه، والزلة ليست بمعصية ممن صدرت منه، وإن كانت صورتها صورة معصية. وكل ما ورد من الظواهر في الكتب المنزّلة والإخبارات النبويّة، مما يعطي ظاهره نسبة الأنبياء إلى المعصية فليس هو من المعصية الحقيقية في شيء، وإنما ذلك بحسب مقاماتهم السامية، وبحسب ما عرفوه هم دون غ يرهم من جلال الربوبيّة، فإن قيل: فلم أطلق الحق عليهم المعصية؟! قلنا: يصح أن يكون خطابه لهم بذلك، لكونهم لما صدر منهم ما صورته غير طاعة نسياناً، كما في قصة آدم (عليه السلام) ونحوها؛ أو يكون الحق تعالى أمرهم في بواطنهم بما يخالف الظاهر، كما في قصة يوسف وإخوته، وقصة خضر وموسى (عليه السلام) ونحو ذلك، أو يكون ما صدر منهم خلاف الأوْلى و الأفضل أو بوجه من الوجوه التي لا يؤاخذ بها غيرهم، مثل كذبات الخليل، وقتل موسى القبطي، ونحو ذلك، استعظموا ذلك وحدّثوا أنفسهم أنهم أذنبوا ببادئ الرأي منهم فخاطبهم الحق حسب حديثهم أنفسهم، فإنَّ الوحي غالباً يتبع حديث نفوس الأنبياء؛ أو يكون الحق تعالى ـ أطلق عليهم اسم المعصية بحسب كون ذلك الأمر غير طاعة في الظاهر، وقربه لا غير، كيف لا؟ و الحق تعالى شهد لآدم (عليه السلام) بالنسيان فقال: ﴿ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾[طه:20/ 115].

أي قصداً للمعصية، والإجماع على أن الناسي غير عاصٍ ولا مؤاخذ فيم بينه وبين الله تعالى، ومع هذا قال تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾[طه: 20/ 121].

فللسيد أن يقول لأعز عبيده ماشاء، وليس للعبيد أن يقولوا مثل ذلك القول.

فإن قيل: قد أخبر تعالى في كتبه وأخبر رسله الصادقون أن الأنبياء كانو يبكون ويتضرّعون ويتوبون ويعترفون ويستغفرون ممّا صدر منهم... قلنا: إنما ذلك لكمال معرفتهم بقدر الربوبيّة، وما يجب لها من الإعظام و الإجلال. فهم يشاهدون حسناتهم سيئات، إذا نسبوها لما تستحقه الألوهية، فكيف إذا ظهر منهم ما صورته غير صورة طاعة؟! ولأنهم سمعوا قوله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾[محمد: 47/ 7].

أي أن تنصروا الله على أنفسكم، فتنسبوها للتقصير فيما يجب عليها من حقوق الربوبية، وأنها ما قدرت الربوبية قدرها، ولا وفّتها حقها، فلا تعتذروا عنه ولا تنتصروا لها ولا تجادلوا عنها، ينصركم عليها ويجعلها في قبضتكم، وتحت أسر قهركم، فتتصرفوا فيها بحكم الشر عوا لعقل، ولأن مطمح نظرهم صلوات الله وسلامه عليهم إطلاق الألوهية من حيث أنها لا تقييد عليها، ولا حصر لها، ولا ميزان ول ضبط فلهذا لا يأمن مكر الله نبي ولا ولي، فلا يأمن مكر الله إلاَّ القوم الخاسرون، وإنما لهم حسن الظن به تعالى ولو كانت لهم معاص وذنوب، كما يقوله كثير من المتكلمين والمفسرين و المؤرخين،  الذين م عرفوا الله تعالى ولا استحيوا منه ولا راقبوه في أعزَّ عبيده عنده، لذكروه يوم القيامة في ذلك الموقف الهائل، يوم تبلى السرائر، فما ذكر إبراهيم إلاَّ قوله هي أختي، وقوله فعله كبيرهم، وقوله: إني سقيم، وذكر نوح دعوته على قومه، وذكر موسى قتله القبطي، وذكر آدم أكله من الشجرة نسياناً، فيالله وللمسلمين، فهل هذه معاص وذنوب بالنسبة إلى غيرهم صلوات الله وسلامه عيهم فنسبة قرناء الأنبياء عليهم الصلاة و السلام إلى الأنبياء، من حيث بواطنهم، أعني ما عدا حواسّهم الظاهرة والباطنة. في المثل: قاطع الطريق إذا رأى رجلاً شاكي السلاح كامل العدة حذراً، فطناً، يقظاً، تبدو عليه سمات الفتك والشجاعة، فهو يلاحظه ويماشيه من بعيد، لعلمه أنه ل قدرة له عليه ولا سلطان، فما لقرناء الأنبياء من حيث قلوبهم تسلط، وبالجملة فمقام النبوّة أسمى من أن يعتبر عنه بعبارة، أو يدرك لغير أهله بذوق أو بإشارة، أو ينال بغير الاختصاص الإلهي أو يجادل، أو يستشرف عليه مستشرف أو يتطاول، فبدايته غاية أعلى مقامات الأولياء، ونهاية الصديقين الأصفياء، والنبوة مهموزة وغير مهموزة، من النبأ أو النبوّة، وما رفعة هذا المقام الراسخ السامي الشامخ بالإنباء عن المغيبات، وظهور الآيات وخوارق العادات، فإن هذا قد يكون لغير أهل مقام النبوّة، وم انقطع ولا ينقطع إلى يوم القيامة، وإنما رفعته باختصاص أهله بالعبودية المحضة، التي لا يشوبها ربوبية بوجه ولا حال، فكما أن الربوبية كاملة في معناها من كل وجه وحال، لا يشوبها نقص، فعبودية الأنبياء كاملة في معناها لا يشوبها نقص، فالأنبياء هم العبيد الخلّص، وهذه العبودية الخاصة بالأنبياء، هي التي سدَّ بابها، وختم بمحمد (صلى الله عليه وسلم) وانقطع الاتصاف بها، والتطلع لنيلها، وسد باب العبودية المحض هو الذي قطع قلوب العارفين والصدّيقين، لأنهم علموا أنه بقدر تمحيض العبودية تكون منزلة العبد عند حضرة الربوبية، فهما حضرتان متقابلتان، كما قال (صلى الله عليه وسلم) لابي طالب، لما قال له: «يا ابن أخي ما أرى ربّك إلاَّ مطيعاً لك».

وبعدما ورد عليَّ هذا الوارد، وعزمت على تقييده، رأيتُ في المنام أني أتكلم مع الناس في مقام النبوّة، فمن جملة ماقلت لهم: إن أجسام الأنبياء حيث أرواحهم، وأروح غير الأنبياء حيث أجسامهم. إنَّ أجسام الأنبياء (عليه السلام) محكوم لها بحكم الأرواح في الطهارة والصفاء، وكمال الطاعة والمعرفة، وعدم التدنيس بأحكام الطبيعية المظلمة، وإن لابستها ظاهراً فهي لاحقة بالأرواح، لغلبة حكم أرواح الأنبياء على أجسامهم، فهي مغلوبة لها، والحكم للغالب، كحال أهل الجنة في الجنة، ولهذ لما رأى بعض أهل الكشف أهل الجنّة، ورأى الحكم لأرواحهم قال: "لا حشر إلاَّ للأرواح دون الأجسام". وأرواح غير الأنبياء حيث أجسامهم، أي أرواح غير الأنبياء وإن كان أصلها الطهارة والصفاء، وكمال الطاعة والمعرفة فهي محكوم له بحكم الأجسام، لكون أرواحهم مقهورة لأنفسهم، وللأمور الطبيعية الظلمانية، ومغلوبة لها، فهي تجري على مقتضى الأجسام. والعجب كل العجب من بعض العلماء، حيث تجرؤوا على مقام النبوّة، ونسبوا إليه ما نزَّه الله عنه بعض أكابر الأولياء، فضلاً عن الأنبياء، وما تأدّبوا بأدب عباد الله تعالى الأدباء، بل بأدب إبليس، فإنه تأدّب معهم حيث قال: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾[الحجر:40]

لعلمه أنه لا سلطان له عليهم، إمَّا أنَّه أدرك ذلك من فطرته، أو بعد سماع قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر: 15/42]. ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾[الإسراء: 17/ 65].


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!