الفتوحات المكية

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الثامن والعشرون: في بيان أنه لا رازق إلا اللّه تعالى

خلافا للمعتزلة في قولهم: من حصل له الرزق بتعب فهو الرازق نفسه ومن حصل له بغير تعب فاللّه هو الرازق له واحتجوا بحديث فكم ممن لا مطعم له ول مأوى. وليس في ذلك دليل لهم لأن المراد به إنما هو عدم تسهيل الرزق لا منع الرزق مطلقا من باب يا دنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه، قال أهل السنة: ورزق العبد هو ما ينتفع به في التغذي وغيره ولو كان حراما بغصب أو سرقة أو نحوهما. وقالت المعتزلة: ليس الحرام برزق حملا للرزق على الملك، والجواب لا وجه للحمل عليه لأن من الدواب ما لا يملك واللّه تعالى رازقها وعندهم أن العبد يقدر أن يأكل رزق غيره وعندهم أيضا أنه لا يكون رزق اللّه تعالى إلا حلالا لاستناده إلى اللّه تعالى في الجملة وما أسند إليه من حيث انتفاع عباده به يصح أن يكون حراما يعاقبون عليه وقال أهل السنة لا قبح بالنسبة إليه تعالى فإنه تعالى فعال لما يريد وعقابهم على الحرام لسوء مباشرتهم أسبابه. قال أهل السنة: ويلزم المعتزلة أن المتغذي بالحرام فقط طول عمره لم يرزقه اللّه تعالى أصلا وهو مخالف لقوله تعالى: وَم مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] . ول يترك تعالى قط، ما أخبرنا أنه عليه وإن كان لا يجب عليه شيء لإطلاق حضرته وم أوجب اللّه تعالى على نفسه أشياء وحرم أشياء في نحو حديث:

إني حرمت الظلم على نفسي إلا تأنيسا للعباد وتنزلا لعقولهم ليتخلقو بأخلاقه تعالى وإلا فالحق أن جميع ما أنعم به على عباده فضل منه ورحمة ولا يدخل تحت حد الواجب على عباده ومعنى قول المعتزلة السابق في الرزق لاستناده إلى اللّه تعالى في الجملة أي: لأن اللّه تعالى هو خالق القدرة للعبد على تحصيل رزقه وفاق منا ومن المعتزلة وهو بهذا الاعتبار مستند إلى اللّه تعالى عندهم ذكره الشيخ كمال الدين بن أبي شريف وقال بعضهم: الذي يظهر لي أن خطأ الفرق الإسلامية كله خط إضافي لا مطلق ويحتمل أن يكون أكابر المعتزلة ما نفوا إضافة الرزق الحرام إلى اللّه تعالى إلا من باب ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيئة فمن نفسك ومن باب أنه لا يقال: سبحان خالق الخنازير وإن كان تعالى خالقا لها فالمعتزلة يعتقدون أن اللّه تعالى خالق رزق العبد كله بل اليهود والنصارى والمجوس يعتقدون ذلك فضلا عن مسلم موحد كالزمخشري وفي الحديث: والخير كله في يديك والشر ليس إليك. أي: لا يضاف إليك على وجه التشريف ويضاف إليك بحكم الخلق والقسمة وعليه يحمل حديث اللهم أغنني بحلالك عن حرامك. قال: وكثيرا ما ينصب العلماء الخلاف بينهم بلازم المذهب لا سيما المقلدون ولازم المذهب ليس بمذهب على الراجح فعلم أن المعتزلة إن أرادوا بقولهم الحرام ليس برزق اللّه، الأدب اللفظي فلا يأمن به وإن أرادوا غير ذلك فهم مخطئون بإجماع ه. وقد قال الشيخ محيي الدين في الباب الثامن والسبعين وأربعمائة في قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6]: اعلم أن الحق تعالى يوصل لكل مخلوق رزقه الذي قسمه له وليس ذلك من إهانته عليه ولا كرامته فإنه تعالى يرزق البر والفاجر والمكلف، وغير المكلف، ولكن من اعتنائه بالعبد أن يرزقه حلالا لا شبهة فيه ويستخرجه له من بين الحرام والشبهات كما يستخرج اللبن من بين فرث ودم قال تعالى: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ [هود: 86] .

وهي ما أحل للخلق تناوله من جميع الأشياء التي تقويهم على طاعة ربهم، قال: وليس رزق العبد إلا ما تقوم به نشأته وتدوم به قوته وحياته لا ما جمعه وادخره فقد يكون ذلك لغيره وحسابه على جامعه انتهى. وقال أيضا في الباب الثامن والثمانين وأربعمائة في قوله تعالى:

وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه: 131] . اعلم أن رزق ربك هو ما أعطاك مما أنت عليه في وقتك وما لم يعطك. فإن كان لك فلا بد من وصوله إليك وم ليس لك فلا يصل إليك قط فلا تتعب نفسك في غير مطمع ومرادنا بقولنا إن كان لك أنك تأخذه على الحد المشروع فإن ما أخذ من حرام لا ينبغي إضافته إلى اللّه تعالى أدب وإنما يضاف إلى الطبع كما أضاف الخليل عليه الصلاة والسلام المرض إلى نفسه حيث كان مكروها لها والشفاء إلى اللّه تعالى حيث كان محبوبا لها وكما قال أيوب عليه الصلاة والسلام: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء: 83] . ه. وقال أيضا في الباب الثامن والتسعين ومائة حيثما أضيف الرزق إلى اللّه تعالى فالمراد به الحلال الطيب من حيث الكسب وكل ما كان به حياة العبد فهو رزق اللّه تعالى وليس فيه تحجير ومن هنا أبيح الحرام للمضطر لكن لا ينبغي إضافة الحرام إلى اللّه تعالى أدبا وم ورد في حديث: “ أغنني بحلالك عن حرامك. .. “ السابق فإنما هو بيان الجواز.

(خاتمة): في بيان أن الاكتساب لا ينافي التوكل ولا ينبغي نصب خلاف في أن السعي أفضل من التوكل على هذا لأن الحق تعالى جعل الرزق على حالتين فما سبق في علم اللّه أنه يأتيك محمولا بلا سعي لا يقال فيه: إن السعي أفضل وما سبق في علم اللّه أنه لا يأتيك إلا بالسعي في تحصيله لا يقال: فيه ترك السعي أفضل فإن الرزق في طلب صاحبه دائر والمرزوق في طلب رزقه حائر وبسكون أحدهما يتحرك الآخر ولكن هذا الحال يحتاج إلى كشف ومن لا كشف عنده فهو مخير بين السعي وعدمه وغالب الخلق يقولون: كل شيء رأيناه يحتمل أن يكون قسم لنا فتراهم يتجاذبونه وكل من غلب صاحبه تبين أنه له كالزقاق الذي يدخله الجاهل فإن رآه ينفذ خرج منه وإن رآه مسدودا رجع ثم ما قررناه أولا هو على مذهب المحققين من الصوفية وأما على مذهب المتكلمين فرجح قوم التوكل مطلق وآخرون الاكتساب مطلقا قال ابن السبكي والمختار أن ذلك يختلف باختلاف الناس فمن كان في توكله خاليا عن التسخط إذا ضاق رزقه ولا تتطلع نفسه إلى ما في أيدي الناس فالتوكل في حقه أرجح لما فيه من الصبر والمجاهدة للنفس ومن كان في توكله على خلاف ما ذكرنا فالاكتساب في حقه أرجح من التسخط والتطلع. وقد سئل الحسن البصري رضي اللّه تعالى عنه، عن شخص يريد أن يجلس في بيته تاركا للحرفة ولا يخرج ويقول: أن متوكل على اللّه تعالى فقال: إن كان له يقين كيقين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فليفعل وإلا فليخرج إلى الحرفة لئلا يصير يأكل بدينه وزهده ويصطاد بهما الدني انتهى. وقال الشيخ محيي الدين في باب الجنائز من “ الفتوحات “: اعلم أن اضطراب قلب المؤمن في أمر رزقه لا يقدح في أصل إيمانه وإنما يقدح في كماله فقط وذلك لأن هذا الاضطراب ما هو عن تهمة في حق اللّه تعالى في أن اللّه لا يرزقه وإنما هو اضطراب البشرية لعدم الصبر والإحساس بألم الفقد فإن العبد يعلم بالإيمان أن اللّه يرزقه ولا بد من حيث كونه حيوانا ولكن لم يعلمه الحق تعالى متى يرزقه إنما أعلمه أنه لا يموت حتى يستكمل رزقه فما يدري عند فقد السبب الجالب للرزق هل فرغ وجاء أجله فيكون فزعه من الموت أم رزقه لم يفرغ في علم اللّه فيكون اضطرابه لجهله بوقت حصول الرزق بانقطاع السبب فيخاف من ألم الجزع المتوقع أو من دوامه إن كان وقع فهذ سبب الاضطراب انتهى. وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه اللّه تعالى يقول: قد يدعي بعض الناس التوكل ويسعى كل السعي وإن لامه أحد على ذلك يقول: سعيي لأجل العيال لا لأجل نفسي، فمثل هذا يجب عليه أن يمتحن نفسه بأن يفرق جميع ما يكتسبه على العيال أولا، فأولا ولا يدخر لنفسه منه شيئا وينظر فإن وجد في نفسه رائحة اضطراب فليعلم أنه غير متوكل على اللّه وإنما هو مدع كذاب فإن القوم ما سعوا في الرزق إلا امتثال لأمر اللّه تعالى حتى لا تتعطل الأسباب فهمتهم امتثال الأمر لا الاعتماد على الأسباب انتهى. واللّه تعالى أعلم (انتهت مباحث الألوهية وتوابعها). فلنشرع في مباحث النبوة والرسالة فنقول: وباللّه التوفيق.

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!