الفتوحات المكية

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث السابع والعشرون: في بيان أن أفعال الحق تعالى كلها عين الحكمة ولا يقال إنها بالحكمة

لئلا تكون الحكمة موجبة له فيكون محكوما عليه تعالى وهو لا يصح أن يكون محكوما عليه لأنه تعالى أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ [هود: 45] فعلم أنه لا ينبغي أن يعلل أفعال الحق بالحكمة.

وقد قال الشيخ محيي الدين في الباب الثامن والستين وثلاثمائة في قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر: 85] . الباء في قوله: بالحق بمعنى اللام أي:

للحق قال: وهي عين اللام في قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:

56] . فإن اللّه تعالى لا يخلق شيئا بشيء في الغالب وإنما يخلق شيئ عند شيء وعلم أيضا أنه تعالى إذا أخبر أنه خلق شيئا بشيء فتلك اللام لام الحكمة فعين خلقه عين الحكمة إذ خلقه تعالى لا يعلل بالحكمة فيكون معلولا لها انتهى. وعلم أيضا أنه تعالى إن أنعم فنعم فذلك فضله وإن أبلى فعذب فذلك عدله وقد أخرج تعالى العالم قبضتين وأوجد لهم منزلتين وقال:

هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي ولم يعترض عليه معترض هناك إذ لا موجود كان ثم سواه.

(فإن قيل): فما معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: ولا أبالي ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الرابع والستين وثلاثمائة أن معناه: رحمتي سبقت غضبي في حق أهل الجنة وحقت كلمتي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] ويصح أن يكون سبق الرحمة أيضا في حق المشركين من حيث رحمة الإيجاد من العدم إذ هي سابقة على ظهور الغضب الواقع عليهم بعصيانهم أيام التكليف فلذلك كان تعالى لا يبالي بالفريقين، واعلم أن الاسم الرب مع أهل الجنة لأنها دار أنس وجمال وتنزل إلهي لطيف والاسم الجبار مع أهل النار لأنها دار جلال وجبروت وقهر فلا يزال هذان الاسمان مع أهل الدارين أبد الآبدين ودهر الداهرين.

(فإن قلت): فهل يتجلّى الحق لأهل النار إلا بالجلال الصرف أم بالجلال الممزوج كما في دار الدنيا ؟

(فالجواب): لا يتجلّى الحق تعالى لأهل النار إلا بالجلال الصرف لفقد الرحمة بخلاف الدنيا فإنه يتجلّى بجلال ممزوج بجمال وذلك حتى يطيقه الخلائق.

(فإن قلت): فإذا ليس المراد بعدم المبالاة بأهل النار ما يتبادر إلى الأفهام من عدم التهمم بأمرهم.(فالجواب): وهو كذلك خلاف ما يفهمه من لا معرفة له بالحقائق لأنه لولا المبالاة بأمرهم ما آخذهم بالجرائم ولا وصف تعالى نفسه بالغضب السرمدي عليهم ولا كان بطشه الشديد حل بهم ولا كانت رحمته محرمة عليهم وهذا كله من المبالاة بهم والتهمم بأمرهم ولولا المبالاة ما كان هذا الحكم فللأمور والأحكام مواطن إذا عرفه أهلها لم يتعدوا بكل حكم موطنه.(فإن قلت): فإذا كانت رحمته سبقت غضبه فما معنى قول الإمام أبي القاسم بن قسي:

لا يحكم عدله في فضله ولا فضله في عدله ؟

(فالجواب): إن معناه أن كلا من النعتين ليس محلا لحكم الآخر كم تعطيه الحقائق ولكن قد علمنا من اللّه تعالى أنه يتفضل بالمغفرة على طائفة من عباده قد عملوا الشرور ولا يقيم عليهم ميزان العدل ولا يؤاخذهم بالعدل وإنما يحكم فيهم بفضله ولا يقال في هذا إنه حكم فضله في عدله، إذ محل حكم الصفة إنما هو في المفضول عليه أو المعدول عنه فعلى هذا يجب تأويل كلام ابن قسي فإنه هو اللائق بمقامه فإنه كان من الراسخين واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!