الفتوحات المكية

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث العاشر: في وجوب اعتقاد أنه تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن

فلا افتتاح له ولا انتهاء ولا ظهور لأحد بالقهر والسلطان في الدارين غيره ولما كان لا يصح لأحد من الخلق أن يعرف ربه كما يعرف تعالى نفسه لم يزل تعالى باطن من هذا الوجه (فإن قلت) فهل حضرات هذه الأسماء الأربعة متقيدة لا تتصرف إلا في أهل حضرتها أم كل اسم يفعل فعل إخوانه (فالجواب) كما قاله الشيخ محيي الدين في " شرحه لترجمان الأشواق ":

أن الحق تعالى أول من عين ما هو آخر وظاهر وباطن وآخر من عين ما هو أول وباطن وظاهر وباطن من عين ما هو ظاهر وأول وآخر ففي كل صفة ما في أخواتها وذلك لمباينة صفاته تعالى لصفات خلقه إذ لا تتعدى كل صفة من صفاتهم ما حده الحق تعالى لها فصفة الشم مثلا لا تعطي سوى شم العطر والنتن، وصفة السمع لا تتعدى المسموعات فلا يرى بها ولا يتكلم وقس على ذلك فعلم أن سبب توقف العقول الضعيفة في كون الصفات الإلهية تفعل كل صفة منها فعل أخواتها كون من توقف رأى أن القوى التي خلق الإنسان عليها لا تتعدى حقائقها فقاس الحق تعالى على نفسه وظن أن صفة الحق تعالى كذلك انتهى.

* - وقال في موضع آخر من " شرحه لترجمان الأشواق ": قد تسمى الحق تعالى أزلا بالظاهر والباطن ولا يجوز حمله على محمل النسب والإضافات وإنما ينبغي أن يحمل على أنه أمر ذاتي يوصف به على الوجه الذي يليق به ويعلمه سبحانه وتعالى من نفسه.

* - وقالت السيدة الكاملة سيدة العجم في " شرح المشاهد ": اعلم أن الأزل والأبد في حقه تعالى سواء حتى إن بعضهم استغنى بلفظ الاسم الأول عن الاسم الباقي إذ من شأن الأول البقاء السرمدي فإياك يا أخي أن تتوهم من نحو قولهم إن اللّه تكلم بكذا في الأزل أو قدر كذا في الأزل إن ذلك عبارة عن امتداد متوهم في زمان معقول كزمان الخلق فإن ذلك من حكم الوهم لا من حكم النظر الصحيح فإن الخالق قبل خلق الزمان المعقول لنا لا يتعقل إذ العقل الإنساني إنما وجد وجود آدم عليه الصلاة والسلام فعلم أن مدلول لفظة الأزل عبارة عن نفي الأولية للّه تعالى فهو أول لا بأولية تحكم عليه فيكون تحت حيطتها ومعلولا عنها وأطالت في ذلك رضي اللّه تعالى عنها.

* - وقال الشيخ محيي الدين في باب الأسرار: إنما أخبرنا تعالى بأنه الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الحديد: 3] ليرشدنا إلى ترك التعب في طريق معرفته الذاتية كأنه تعالى يقول الذي تطلبونه من الباطن مثلا هو عين ما تطلبونه من الظاهر ومع ذلك فلم تصغ النفوس إلى هذا الإرشاد بل بحثت في الأدلة وصارت كل شيء ظهر لها من صفات الحق تعالى تطلب خلافه ولو أنها كانت وقفت مع ما ظهر لها من وجوه المعارف لعرفت الأمر على ما هو عليه فكان طالبها لما غاب عنها هو عين حجابها ولو قدرت الذي ظهر لها حق قدره لشغلها بما تخيلت أنه بطن عنها واللّه ما بطن عنها شيء هو من مقامها وإنما حجب كل أحد عما هو فوق مقامه لا غير انتهى.

* - وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي اللّه تعالى عنه: قد محق الحق تعالى جميع الأغيار بقوله هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الحديد: 3] فقيل له: فأين الخلق ؟ فقال موجودون ولكن حكمهم مع الحق تعالى كالأنابيب التي في كوة الشمس تراها صاعدة هابطة فإذا قبضت عليها لا تراها فهي موجودة في الشهود مفقودة في الوجود انتهى. (فإن قلت) فهل كان ظهوره تعالى بعد استتار (فالجواب) كما قاله الشيخ تقي الدين بن أبي المنصور: إن ظهوره تعالى لم يكن بعد استتار بل هو الظاهر في حال كونه باطنا واختلاف حكم التجليات إنما هو راجع إلى إدراك المدركين والمشاهدين بحسب ما يكشف عن بصائرهم فإنه تعالى لا يظهر بعد احتجاب ولا ينتزل بعد ارتفاع لأن ذلك من صفة الأجسام وتعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا. وقال الشيخ في أوائل باب الصلاة من "الفتوحات": اعلم أن العبد لا يكمل شهوده وعبادته للّه تعالى إلا إن شاهده وعبده من حيث أوليته المنزهة عن أن يتقدمها أولية لا من حيث أولية العبد عن أوليات كثيرة قبله فإذا وقف العبد وعبد ربه من حيث أوليته تعالى انسحبت عبادته من هناك على كل عبادة عبدها أحد من المخلوقين إلى حين وجود هذا العابد انتهى. وهذا أمر نفيس ما سمعناه من أحد.

* - وقال الشيخ أيضا في الباب السادس والخمسين ومائتين: اعلم أن تجليات الحق تعالى بالأسماء لها ثلاث مراتب: الأولى أن يتجلى للعالم بالاسم الظاهر فل يبطن على العالم شيء من أمر الحق تعالى وهذا خاص بموقف القيامة، الثانية: أن يتجلى للعالم في اسمه الباطن فتشهده القلوب دون الأبصار ولهذا يجد الإنسان في فطرته الاستناد إليه، والإقدار به من غير

نظر في دليل ويرجع في أموره كلها إليه، الثالثة: أن يتجلى في اسمه الظاهر والباطن معا وهذا خاص بالأنبياء وكمل ورثتهم انتهى. فاعلم ذلك وتدبره واللّه يتولى هداك.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!