الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


خبر عبد الواحد بن زيد مع الراهب

روينا من حديث ابن ثابت قال: انا الحسن بن أحمد بن إبراهيم الدورقي، نبأ جعفر بن محمد بن أحمد المؤدب، نبأ محمد بن يونس نبأ شداد بن علي، نبأ عبد الواحد بن زيد قال:

مررت براهب فناديته: يا راهب من تعبد؟ قال: الذي خلقني وخلقك، فقلت:

عظيم هو؟ قال: عظيم المنزلة، جاوزت عظمته كل شيء. قلت: فمتى يذوق العبد الأنس بالله؟ قال: إذا صفا الود حصلت المعاملة. قلت: فمتى يصفو الود؟ قال: إذا اجتمع الهمّ فصار في الطاعة. قلت: متى تخلص المعاملة؟ قال: إذا كان الهمّ همّا واحدا. قلت: كيف تحليت بالوحدة؟ قال: لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك. قلت: ما أكثر م يجد العبد من الوحدة؟ قال: الراحة من مداراة الناس، والسلامة من شرّهم. قلت: فم يستعان على قلة المطعم؟ قال: بالتحري في المكسب والنظرة في الكسرة. قلت: زدني.

قال: كل حلالا، وارقد حيث شئت. قلت: فأين طريق الراحة؟ قال: خلاف الهوف.

قلت: و متى يجد العبد الراحة؟ قال: إذا وضع قدمه في الجنة. قلت: لم تخلّيت عن الدنيا و تعلّقت في هذه الصومعة؟ قال: لأنه من مشى على الأرض عثر وخاف اللصوص، فتعلقت فيها، وتحصّنت بمن في السماء من فتنة أهل الأرض لأنهم سرّاق العقول، فخفت أن يسرقوا عقلي، وذلك أن القلب إذا صفا ضاقت عليه الأرض وأحبّ قرب السماء، وفكّر في قرب الأجل، فأحبّ أن يرتحل إلى ربه. قلت: يا راهب من أين تأكل؟ قال: من زرع لم أبذره، بذره اللطيف الخبير الذي نصب الرحا يأتيها بالطحين، وأشار إلى ضرسه.

قلت: كيف ترى حالك؟ قال: كيف يكون حال من أراد سفرا بلا أهبة، ويسكن قبرا بلا مؤنس، ويقف بين يدي حكم عدل؟ ثم أرسل عينيه فبكى.

قلت: و ما يبكيك؟ قال: ذكرت أياما مضت من أجلي لم أحقق فيها عملي، وفكرت في قلة الزاد، و في عقبة هبوط إلى الجنة أو إلى النار. قلت: يا راهب بم يستجلب الحزن؟ قال: بطول الغربة، وليس الغريب من مشى من بلد إلى بلد، ولكن الغريب صالح بين الفسّاق. ثم قال: إن سرعة الاستغفار توبة الكذابين، لو علم اللسان ممّ يستغفر الله لجفّ في الحنك. إن الدنيا منذ يوم ساكنها الموت ما قرّت لها عين، كلما تزوّجت الدنيا زوج طلّقها الموت، والدنيا من الموت طالق، لم تقرّ عينها، فمثلها كمثل الحية، ليّن مسّها والسم في جوفها. ثم قال الراهب: يا هذا، كما لا يجوز الزيف من الدراهم، كذلك لا تجوز لا إله إلا الله إلا بنور الإخلاص، إن الفضة السوداء لتزخرف بالفضة البيضاء. ثم

قال: عند تصحيح الضمائر يغفر الله الكبائر، فإذا عزم العبد على ترك الآثام أتته من السماء الفتوح والدعاء المستجاب الذي تحرّكه الأحزان.

قلت: فأكون معك يا راهب وأقيم عندك؟ قال: ما أصنع بك ومعي معطي الأرزاق، وقابض الأرواح، يسوق إليّ الرزق في كل وقت، لم يكلفني جمعه، ولم يقدر على ذلك أحد غيره.

وروين أيضا من حديث ابن ثابت قال: انا علي بن أحمد الرزاز، نبأ أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد النقاش، نبأ محمد بن يحيى، حدثني جعفر بن أبي جعفر الرازي، قال:

كتب إبراهيم بن أدهم إلى أخ له:

بسم الله الرحمن الرحيم.

أما بعد، فإني أوصيك بتقوى من لا تحلّ معصيته، ولا يرجى غيره، ولا يدرك الغنى إلا به. من استغنى به عزّ وشبع وروي، وانتقل عند ما أبصر قلبه عما أبصرت عيناه من زهرة الدنيا، فتركها وجانب شبهها، فرضي بالحلال الصافي منها، إلا ما لا بد له منه من كسرة يشدّ بها صلبه، وثوب يواري به عورته، أغلظ ما يجد وأخشنه.

وروين من حديثه أيضا قال: حدثنا محمد بن عمر العكبري، انا علي بن الفرج بن روح، نبأ عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، نبأ الحسين بن عبد الرحمن قال: كتب بعض الحكماء إلى أخ له:

أما بعد، فاجعل القنوع ذخرا تبلغ به، إلى أن يفتح لك باب يحسن لك الدخول فيه.

فإن الثقة مع القانع لا تخذل، وعون الإله مع ذوي الإناءة. وما أقرب الصنع مع الملهوف.

وربم كان الفقر نوعا من آداب الله، وخيرة في العواقب. والحظوظ ثمرات، فلا تعجل على ثمرة لم تدرك، فإنك تدركها في أوانها غدية. والمدبر لك أعلم بالوقت الذي يصلح فيه لما تؤمّل، فثق بخيرته لك في الأمور كلها والسلام.

ومن حديثه أيضا في روايتنا قال: نبأ محمد بن عبد الملك بن بشران، انا دعلج بن أحمد، نبأ أبو الحسن محمد بن أحمد بن هارون العدوي، نبأ عمرو بن الحباب، نبأ يعلى بن الأشدق، نبأ عبد الله بن جرادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الأعمى من عمي بصره، ولكن الأعمى من تعمى بصيرته» .

وروين أيضا من حديثه قال: نبأ الحسين بن عمر بن برهان، نبأ عبد الباقي بن نافع،

نب بشر بن موسى، نبأ عبيد الله بن صالح، قال: كتب رجل إلى محمد بن السمّاك: صف لي الدنيا. فكتب إليه:

أما بعد، فإن الله حفّها بالشهوات، ثم ملأها بالآفات. مزج حلالها بالرزيات، وحرامه بالتبعات. فحلالها حساب، وحرامها عذاب.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!