الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


خليفة أمن وعدل في حال شغله باللهو والغزل

احتجب عبد الرحمن بقرطبة عن الناس سنين كثيرة في أكل وشرب ولهو وطرب، فدخل عليه بعض من له عليه إدلال فقال:

يا أمير المؤمنين، اشتغلت باللهو عما قلّدته من أمور المسلمين، وفوّض إليك من القيام بهم و النظر في مصالحهم، ورعي حق الله فيهم، فقال:

يا هذا، السّبل آمنة؟ قال: نعم، قال: قاضيكم يعدل؟ قال: نعم، قال: عدوكم مقهور؟ قال: نعم، قال: فما تريدون مني؟ ودخل على هذا الخليفة يوما أرسال الإفرنج، وقد ظهر لهم من عظيم الملك ما يرغبهم، بسط لهم الحصر من باب قرطبة إلى باب الزهراء قدر فرسخ، و جعل الرجال عن يمين الطريق ويساره، بأيديهم السيوف الطوال العراض مجرّدة، يجمع بين سيف الأيمن

و سيف الأيسر حتى صارت كعقد الحنايا، وأمر بالإرسال أن يمشوا بين تلك في ظلالها، كأنها ساباط، فدخلهم من الرعب ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فلما وصلوا إلى باب الزهراء فرش لهم الديباج من باب المدينة إلى مقعده على تلك الحالة من الترهيب، و أقام في مواضع مخصوصة حجّابا كأنهم الملوك، قعودا على كراسي مزخرفة، عليهم الديباج و الحرير، فما أبصروا حاجبا إلا سجدوا له يتخيلون أنه الخليفة، فيقال لهم: ارفعو رءوسكم، هذا عبد من عبيده، إلى أن وصلوا به إلى ساحة مفروشة بالرمل، والخليفة في وسطها قاعد، عليه ثياب خلق قصار، يساوي كل ما عليه أربعة دراهم، وهو قاعد على الأرض مطرق وبين يديه مصحف وسيف ونار. فقيل للرسل: هذا السلطان، فسجدوا له، فرفع رأسه إليهم قبل أن يتكلموا وقال:

إن الله أمرنا يا هؤلاء أن ندعوكم إلى هذا، وأشار إلى المصحف كتاب الله، فإن أبيتم فبهذا، وأشار إلى السيف، ومصيركم إذا قتلناكم إلى هذا، وأشار إلى النار. فملئو منه رعبا، وأمر بإخراجهم، ولم يبدو كلاما، فصالحوه على ما أراد.

هكذ يعزّ دين الله وإلا فلا.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!