الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ومن باب الغربة وذكر الوطن

قال بعضهم: أرض الرجل أوضح نسبه، وأهله أخصّ حسبه.

وقيل لأعرابي: كيف تصنع بالبادية إذا اشتد القيظ وانتقل كل شيء ظله؟ قال: وهل العيش إلا ذلك؟ يمشي أحدنا ميلا فيرفض عرقا، ثم ينصب عصاه، ويلقي عليه كساه، ويجلس في فيّه، ويكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى.

وأنشد أبو النصر الأسدي:

أحبّ بلاد الله ما بين ضارج إلى قفوان أن تسحّ سحابها

بلاد بها نيطت عليّ تمائمي وأوّل أرض مسّ جلدي ترابه

لإبراهيم بن محفوظ الرّبعي:

أحبّ الأرض تسكنها سليمى وإن كانت بواديها الجدوب

وما عهدي بحبّ تراب أرض ولكن من يحلّ بها حبيب

حدثنا أبو ذرّ مصعب بن محمد بن مسعود الخشني الخطيب الأديب قاضي كورة حيان بمسجد الأخضر بمدينة إشبيلية قال:

لما حملت نائلة بنت الفرافصة الكلبيّة إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه كرهت فراق أهلها، فقالت لضبّ، أخيها:

لست ترى بالله يا ضبّ أنني مرافقة نحو المدينة أركبا

ما كان في أولاد عمرو بن عامر لك الويل ما يغني الخباء المحجّب

أبى الله إلا أن أكون غريبة بيثرب لا أمّ لديّ ولا أب

وأنشدني ابن سكر بها بمسجد الشهداء:

ألا ي حبّذا وطني وأهلي وصحبي حين تذكرني الصحاب

بلاد من غرانقة كرام بهم حلي تميمتي الشباب

وما عسل ببارد ماء مزن على ظمأ لشاربه يشاب

بأشهى من تلقّيكم إلينا فكيف لنا به ومتى الإياب

وأنشدتني خديجة بنت عبد الوهاب بن هبة الله الصوفي القصّار قول الأعرابية التي كان يهواها بعض خلفاء بني العباس، فتزوّج بها، فلم يوافقها هوى البلاد، فلم تزل تنحل وتعتلّ وتتأوّه، مع ما هي عليه من النعيم واللذة والأمر والنهي، فسأله عن شأنها، فأخبرته بما تجد من الشوق إلى البراري وأحاليب الرعاء، وورود المياه التي تعوّدت، فبنى لها قصرا على رأس البرّية بشاطئ الدجلة سماه المعشوق، يقابل مدينة سامرّاء من الجانب الآخر. وأمر بالأغنام والرعاء أن تسرح بين يديها، و تتراءى منها، فلم يزدها ذلك إلا اشتياقا إلى وطنها، فمرّ بها يوما في قصرها من حيث لا تشعر بمكانه، فسمعها تنتحب وتبكي حتى ارتفع صوتها، وعلا شهيقها، وكبد الخليفة يتقطع رحمة، فسمعها تقول:

وما ذنب أعرابيّة قذفت بها صروف النوى من حيث لم تك ظنّت

تمنّت أحاليب الرّعاة وخيمة بنجد فلم يقضى لهلا ما تمنّت

إذا ذكرت ماء العذيب وطيبه وبرد حصاه آخر الليل أنّت

لها أنّة عند العشاء وأنّة سحيرا ولو لا أنّتاها لجنّت

فخرج عليها الخليفة وقال: وقد قضى ما تمنّيت، فالحقي بأهلك من غير طلاق، فما مرّ عليها وقت أسرّ من ذلك، وسرى ماء الحياة في وجهها من حينها، فعجب الخليفة، و التحقت بأهلها بجميع ما كان عندها في قصرها، وكان الخليفة يهواها، ويغشاها في أهلها إذا تصيّد.

فأخذ هذه الأبيات بعض الأدباء فقال:

وما ذنب أعرابية قذفت بها. . .

إلى آخر الأبيات. ثم زاد:

يا عظم من شوقي إليكم وإنما أجمجم أحشائي على ما أجنّت


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!