الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ومن باب النسيب

ما قاله خالد بن يزيد فيما يقع بين العين والفؤاد من العناد:

القلب يحسد عيني لذّة النظر والعين تحسد قلبي لذة الفكر

يقول قلبي لعيني كلما نظرت كم تنظرين رماك الله بالسهر

العين تورثه هما فتشغله والقلب بالدمع ينهاها عن النظر

هذان خصمان لا أرضى بحكمهما فاحكم فديتك بين القلب والبصر

ولنا في الحكم بينهما إجابة لهذا السائل الأديب بما هو الأمر عليه:

ذكرت ي أيها المفتون بالحور وبالنسيب وما في الحب من سير

بين الفؤاد وبين السمع والبصر وقائع لم تزل في سالف العصر

وطالما يبحثون الدهر عن حكم ندب خبير بما يعطيه من أثر

فاسمع هديت صواب الحكم من حكم عدل عليم بعين الأمر والخبر

إني لأحكم بين القلب والبصر حكما تؤيّده أدلّة النظر

نعيم أهل الهوى وقف على النظر والسمع واللثم والتعنيق والوطر

لا يدرك الحسن الحسنيّ طالبه ما لم يقم شاهد من حاسد النظر

وهكذا كل ما للحسن مدركه لا يستقل به عقل من البشر

فالقلب يحمل ما يعطيه من ألم ومن نعيم وخير عالم الصّور

له النعيم كما أن العذاب له والحسن آلته للنفع والضرر

وبعد أن أثبت العلم اليقين لكم فلا تخاصم بين القلب والبصر

وإنما تلك أحوال يقول بها أهل الهوى لم تكن نتائج الفكر

و لنا في الجواب:

ليس للعين لذّة إنما تلك في الفؤاد

إنما الحسن آلة وبه يبلغ المراد

ما له غير ما يرى ما له لذة الوداد

وإذا كان هكذا لم يكونا على عناد

هكذا الحكم فيهما عند من يطلب السداد

ولبعضهم في هذا الباب:

فو الله ما أدري أنفسي ألومها على الحب أم عيني المشومة أم قلبي

إذا لمت قلبي قال نفسك أذنبت وإن لمتها قالت خذ العين بالذنب

فقلبي وطرفي قد تشاركن في دمي فيا ربّ كن عوني على العين والقلب

وللعباس بن الأحنف:

اختصم العينان والقلب وقالا جميعا ما لنا ذنب

فقلت نفسي ذهبت عنوة بينكما هذا وذا لعب

فقال قلبي مقلتي أبصرت لا ذنب لي يا أيها الصبّ

فقلت للعين سمعت الذي يحيكه عن ناظرك القلب

فاستعبرت عند مقالي لها وكان من خجلتها السكب

ولنا من هذا الباب:

لم هويت الهلال يا قلب قل لي قال يا عين لم لحظت الهلالا

أنت أهديت إذ نظرت سقاما وبلاء وشقوة وخبال

ولخالد بن يزيد في هذا الباب:

كتب الطرف في فؤادي كتابا فهو بالشوق والهوى مختوم

كان طرفي على فؤادي بلاء إن طرفي على فؤادي مشوم

ولبعضهم في هذا الباب:

ويحك ي طرفي أما تستحي حتى متى توردني حتفي

وأنت يا قلب إلى كم وكم تتركني أدعو على طرفي

هذان قد صارا عدوّين لي فأنت ما عذرك يا إلفي

تحلف لي أنك في كفي وعضّ كفي منك في كفي

و لابن المعتز في هذا الباب:

إن عيني قادت فؤادي إليها عبد حبّ لا عبد رقّ لديها

فهو بين الفراق والهجر موقو ف بحزن منها وحزن عليه

وللعباس بن الأحنف في هذا الباب:

قلبي إلى ما ضرّني داعي يكثر إسقامي وأوجاعي

كيف احتراسي من عدوي إذا كان عدوي بين أضلاعي

وله أيضا:

أقام قيامتي نظري فمن يعدي على بصري

تعرّض لي الهوى غرا فشيّبني على صغري

وكان هواك لي قدرا فكيف أفرّ من قدري

ولنا فيه:

أقول للقلب قد أوردتني سقما فقال عيناك قادتني إلى تلفي

لو لم تر العين لم تمس حليف ضنى وإن أمت فيه ما في الحب من خلف

لذاك قسمت ما عندي على بدني من الضنا والجوى والدمع والأسف

ومما روينا في بنيان إيليا: حدثنا غير واحد، عن القاسم بن علي بن الحسن، نبأ أبو القاسم السوسي، نبأ إبراهيم بن يونس المقري، نبأ أبو محمد عبد العزيز النصيبي، نب أبو بكر بن محمد بن أحمد بن محمد الخطيب بن الواسطي، نبأ أبو بكر بن محمد بن أيوب بن سويد الحميري، نبأ أبي، نبأ إبراهيم بن أبي علية، عن أبي الزاهرية، عن رافع بن عمير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى لداود: يا داود، ابن لي في الأرض بيتا. فبنى داود لنفسه بيتا قبل البيت الذي أمره به، فأوحى الله عز وجل إليه: يا داود، بنيت بيتك قبل بيتي. قال: أي رب، هكذا قلت فيما قضيت: من ملك استأثر. ثم أخذ في بناء المسجد الذي أمر به، فلما تمّ سور الحائط سقط، ثم بناه، فلما تمّ السور سقط ثلاثا. فشكى إلى الله عز وجل ذلك، فأوحى الله تعالى إليه: إنه لا يصلح أن تبني لي بيتا.

قال: يا رب و لم؟ قال: لما جرى على يديك من الدماء. قال: إي رب، أولم يكن ذلك في محبتك و رضاك؟ قال: بلى، ولكنهم عبادي، وأنا أرحمهم. فشقّ ذلك عليه، فأوحى الله عز وجل إليه: لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان» .

فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه، فلما تمّ قرّب القرابين، وذبح الذبائح، وجمع بني إسرائيل، فأوحى الله تعالى إليه: قد أرى سرورك ببينان بيتي، فسلني أعطيك.

قال: أسألك ثلاث خصال: حكما يوافق حكمك، وملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، ومن أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كهيئته يوم ولدته أمه.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اثنتان قد أعطيهما، وأنا أرجو أن يكون أعطي الثالثة» . فقال العلماء في ذلك: دعوة نبيّ، ورجاء نبي، نرجو قبولها إن شاء الله تعالى، وما ذلك على الله بعزيز.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!