الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


أنس بعرفان وخلوة برحمان

حدثن محمد بن إسماعيل، نبأ علي بن النفيس، نبأ عبد الرحمن بن علي بن محمد، انا أبو بكر الصوفي، انا أبو سعيد الحيري، انا أبو بكر، انا ابن باكويه الشيرازي، نبأ عبد الواحد بن بكر الورثاني، انا أبو بكر أحمد بن محمد المارستاني، عن محمد بن عيسى القرشي، حدثني أبو الأشهب السائح: رأيت بين الثعلبية والخزيمية غلاما قائما يصلّي عند بعض الأسيال، قد انقطع عن الناس، فانتظرته حتى قطع صلاته، ثم قلت له: ما معك مونس؟ قال: بلى. قلت: وأين هو؟ قال: أمامي، ومعي، وخلفي، وعن شمالي، وعن يميني، وفوقي. فعلمت أن عنده معرفة، فقلت له: أما معك زاد؟ قال: بلى. قلت: وأين هو؟ قال: الإخلاص لله عز وجل، والتوحيد له، والإقرار بنبيّه صلى الله عليه و سلم، وإيمان صادق، وتوكّل واثق. قلت: هل لك في مرافقتي؟ قال: الرفيق شغل عن الله عز وجل، ولا أحبّ أن أرافق أحدا فأشتغل به عنه طرفة عين. قلت: أما تستوحش في هذه البريّة وحدك؟ قال:

الأنس بالله قطع عني كل وحشة، حتى لو كنت بين السباع ما خفتها، ول استوحشت منها.

قلت: فمن أين تأكل؟ قال: الذي غذّاني في ظلم الأرحام صغيرا تكفّل بي كبيرا. فقلت:

في أيّ وقت تجيئك الأسباب؟ فقال: لي حدّ معلوم، ووقت مفهوم، إذا احتجت إلى الطعام أصبته في أي موضع كنت، وقد علّمني ما يصلحني، وهو غير غافل عني. قلت:

لك حاجة؟ قال: نعم. قلت: وما هي؟ قال: إن رأيتني فلا تكلّمني، ولا تعلم أحدا أنك تعرفني. قلت: لك ذلك، فهل حاجة أخرى؟ قال: نعم. قلت: وما هي؟ قال: إن استطعت أن لا تنساني في دعائك وعند الشدائد إذا نزلت بك فافعل. قلت: كيف يدعو مثلي لمثلك وأنت أفضل مني خوفا وتوكّلا؟ قال: لا تقل هذا، إنك قد صليت لله قبلي، وصمت قبلي، ولك حق الإسلام، ومعرفة الإيمان. قلت: فإن لي أيضا حاجة. قال: وما هي؟ قلت: ادع الله لي. قال: حجب الله طرفك عن كل معصية، وألهم قلبك الفكر فيما يرضيه، حتى لا يكون لك همّ إلا هو. قلت: يا حبيبي، متى ألقاك وأين أطلبك؟ قال: أما في الدنيا فل تحدث نفسك بلقاء فيها، وأما الآخرة فإنها مجمع المتّقين، فإياك أن تخالف الله فيما أمرك وندبك إليه. وإن كنت تبتغي لقائي فاطلبني مع الناظرين إلى الله تعالى في زمرتهم. قلت: وكيف علمت؟ قال: بغضّ طرفي له عن كل محرّم، واجتنابي فيه كل منكر و مأثم. وقد سألته أن يجعل حبي النظر إليه. ثم صاح وأقبل يسعى حتى غاب عن بصري.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!