الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


خبر ظريف في الحنين إلى الوطن

قال ابن الرومي في ذلك:

وحبّب أوطان الرجال إليهم مأرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا الأوطان ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلك

روينا من حديث أبي الوليد، عن محمد بن أبي عمر، عن القاضي محمد بن عبد الرحمن بن محمد المخزومي، عن القاضي الأوقص محمد بن عبد الرحمن بن هشام، قال: خرجت غازيا في خلافة ابن مروان، فقفلنا من بلاد الروم، فأصابنا مطر، فآوينا إلى قصر فاستكنّا به من المطر، فلما أمسينا خرجت جارية مولدة من القصر، فتذكرت مكة وبكت عليها، و أنشأت تقول:

من كان ذا شجن بالشام يحسبه فإن في غيره أمسى إلى الشجن

فإن ذا القصر حقا ما به وطن لكن بمكة أمسى الأهل والوطن

من ذا يسائل عنّا أين منزلنا فالأقحوانة منّا منزل قمن

إذ يلبث العيش صفوا ما يكدّره طعن الوشاة ولا ينبو بنا الزمن

قال: فلما أصبحنا لقيت صاحب القصر فقلت له: رأيت جارية مولّدة خرجت من قصرك، فسمعتها تنشد كذا وكذا، فقال: هذه جارية مولدة مكيّة اشتريتها، وخرجت بها إلى الشام، فو الله ما ترى عيشنا ولا ما نحن فيه شيئا، فقلت: أتبيعها؟ فقال: إذ فارقت روحي.

قولها: فالأقحوانة منّا منزل قمن: الأقحوانة منزل عند الليط بمكة، كان مجلسا يجلس فيه من يخرج من مكة، يتحدثون فيه بالعشيّ، ويلبسون الثياب المحمّرة والمورّدة و المطيّبة، فكان مجلسهم من حسن ثيابهم يقال له الأقحوانة.

وقالت بعض بنات الأعراب: روتني صاحبة القصر الذي على شاطئ دجلة قبالة سامرّاء يقال له عاشق ومعشوق، وكان قد عشقها بعض الخلفاء فتزوّجها، ونقلها من البادية، فتغيّر عليها الحال. وكانت تحنّ إلى ما نشأت عليه، فبنى لها هذا القصر، وأمر بالإبل و الغنم أن تحلب بكرة وعشية على باب قصرها في البرية، فأنست بعض أنس، فدخل عليه الخليفة يوما وهي تبكي وتقول:

وما ذنب أعرابية قذفت بها صروف النوى من حيث لم تك ظنّت

تمنّت أحاليب الرعاة وخيمة بنجد فلم يقضى لها ما تمنّت

إذا ذكرت ماء العذيب وطيبه وبرد حصاه آخر الليل حنّت

لها أنّة عند العشاء وأنّة سحيرا ولو لا أنّتاها لحنّت

فذكر أنه قال لها: الحقي بأهلك بكل ما معك، فسرّت ولحقت بأهلها.

ولن فيما يتعلق بعفو الله ومنّته:

الله يعلم أني لست أذكره إلا وجدت له نارا على كبدي

لأنني بلسان الذنب أذكره وهو العليم بما أضمرت في خلدي

لكنني بجميل العفو أعرفه وبالتجاوز والإحسان والرفد

وهل تقاوم عفو الله معصية هيهات هيهات لا تعدل عن الرشد

الله أكرم أن تنساك منّته ومن يجود إذا الرحمن لم يجد

فحسّن الظنّ بالرحمن وارض به ربّا فليس وجود الفرد كالأحد


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!