الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


رؤي المنصور أمير المؤمنين التي كانت سببا لبعض حججه التي أحرم بها من بغداد

حدثن يونس بن يحيى، عن ابن أبي منصور، عن المبارك بن عبد الجبار، عن أبي بكر، عن ابن المنكدر الصلت، عن أبي بكر بن الأنباري، عن محمد بن أحمد المقدمي، عن أبي محمد التميمي، عن منصور بن أبي مزاحم، عن ابن سهل الحاسب، عن طيفور قال: كان سبب إحرام المنصور من بغداد أنه نام ليلة فانتبه مرعوبا، ثم عاود النوم فانتبه كذلك فزع مرعوبا، ثم راجع النوم فانتبه كذلك، فقال: يا ربيع، قال الربيع: قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: لقد رأيت في منامي عجبا.

قال: م رأيت جعلني الله فداءك؟ قال: رأيت كأن آتيا أتاني فهينم بشيء لم أفهمه، فانتبهت فزعا، ثم عاودت النوم فعاودني يقول ذلك الشيء، ثم عاودني بقوله حتى فهمته وحفظته و هو:

كأني بهذا القصر قد باد أهله وعرّي منه أهله ومنازله

وصار رئيس القوم من بعد بهجة إلى جدث تبنى عليه جنادله

وما أحسبني يا ربيع إلا وقد حانت وفاتي، وحضر أجلي، وما لي غير ربي، قم فاجعل لي غسلا. ففعلت، فقام فاغتسل وصلى ركعتين. وقال: أنا عازم على الحج فهيّئ لي آلة الحج، فخرج وخرجنا حتى إذا انتهى إلى الكوفة ونزل النجف فأقام أياما، ثم أمر بالرحيل، فتقدمت نوّابه وجنوده وبقيت أنا بوّابه، وهو بالقصر، فقال لي: ي ربيع، جئني بفحمة من المطبخ، وقال لي: اخرج فكن مع دابتي إلى أن أخرج، فلما خرج و ركب رجعت إلى المكان كأني أطلب شيئا، فوجدته قد كتب على الحائط بالفحمة:

المرء يهوى أن يعي‍ ش وطول عيش قد يضرّه

تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مرّة

وتصرف الأيام حتى ما يرى شيئا يسرّه

كم شامت بي إن هلك‍ ت وقائل لله درّه

للسهيس أنشدني عمي رحمه الله:

زمان يمر وعيش يمر ودهر يكر بما لا يسر

ونفس تذوب وهم ينوب ودنيا تنادي بأن ليس حر

ومن وقائع بعض الفقراء ما حدثنا به عبد الله المروزي قال: قال لي بعض الصالحين: رأيت في واقعتي أبا مدين، وأبا حامد، وجماعة من الصوفية، فقالوا لأبي مدين: قل لنا في التوحيد شيئا، فقال أبو مدين: التوحيد همة المرسلين والنبيين، وهو سر الخلفاء الصديقين، وقطب الورثة من العارفين، به حنّت أسرارهم إلى الحضرة الإلهية، و به انكشفت لهم الأمور الربانية، فأمدهم بالحياة والقيومية، وأظهر لهم أسرار لا تكاد تطيقها الأرواح البشرية، منها السر القائم بالوجود الذي منه بدأ وإليه يعود، ووراء ذلك أسرار لا ينبغي بثّها، ولا يليق بالعارف كشفها، إذ هي أسرار إذ طالعها اضمحلت رسومه، وتلاشت أفكاره وعلومه، وفني ما هو محصور مقيد، وبقي الواحد الفرد الصمد فالعارف المحقق الذي يسير بسيره، ولم يكن له في قلبه متسع لغيره، هو قلبه وحياته، وبه حسنت أخلاقه وصفاته، فكثيفه ظاهر لكل كثيف، ولطيفه يلاحظ أسرار اللطيف، فتوحيد العارفين محض التحقيق، والقصد القصد بلا تخليق، ففي التخليق فناء العمر، وفي القصد الوصول والظفر. فالعارف مقيم بين الخلق بجسمه، و مسافر إلى جمال الحضرة العلية بسرة، فثمرة هذا التوحيد مناله بالسفر فيه تشرفوا و تنعموا، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: «سافروا تصحوا وتغنموا» ، فغنيمة العارف تظهر عليه بالصفات والنعوت، إن اختبرته وجدته بالله قائل، وإن تحققته ألفيته مع سيده كالميت بين يدي الغاسل.

وروين من حديث الهاشمي، بلغ به النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إياكم وفضول المطعم، فإن فضول المطعم يسم القلب بالقسوة، ويبطئ بالجوارح عن الطاعة، ويصم الهمم عن سماع الموعظة. وإياكم وفضول النظر، فإنه يبذر الهوى، ويولد الغفلة، و إياكم واستشعار الطمع، فإنه يشرب القلب شدة الحرص، ويختم على القلب بطابع حب الدنيا، فهو مفتاح كل سيئة، وسبب إحباط كل حسنة» .

وأنشدني محمد بن عبد الواحد لبعضهم:

وأحيائي من عليم ليس يخفى عنه حالي

منطقي يبدي جميلا والبلايا في فعالي

ليت شعري ما اعتذاري يوم أدعى للسؤال

كيف قولي وجوابي كيف فعلي واحتيالي

ليتني لم أك شيئا قبل تحقيق السؤال


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!