الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


خبر عبد الله بن الثامر والأخدود من حديث ابن إسحاق

حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: كان أهل نجران أهل شرك، يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريبا من نجران، فإن نجران هي القرية العظمى، يأتي إليها جماعة أهل تلك البلاد ساحر، يعلّم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزله ميمون قالوا: رجل ابتنى خيمة بين نجران وبين ملك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلّمهم السحر، فبعث الثامر ابنه عبد الله بن ثامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مرّ بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم، فوحّد الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام، حتى إذا فقه فيهم جعل يسأله عن الاسم الأعظم، وكان يعلّمه، فكتمه إياه، وقال له: يا ابن أخي، إنك إن تحمله أخشى ضعفك عنه، والثامر أبو عبد الله يظن أن ابنه يختلف إلى الساحر كما تختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضنّ به عليه، وتخوّف ضعفه عنه، عمد إلى قداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه على قدح، لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا، فجعل يقذفها فيها قدحا قدحا، حتى إذا مرّ بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها لم يضرّه شيء، فأخذه ثم أتى صاحبه، فأخبره أنه قد علم الاسم الذي كتمه، فقال: وما هو؟ قال: هو كذا وكذا، قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع، قال: أي ابن أخي، قد أصبته، فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل، فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يبق أحد به ضرر إلا قال له عبد الله: أتوحّد الله، و تدخل في ديني، وأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحّد الله ويسلم، ويدعو له فيشفى، حتى لم يبق بنجران أحد به

ضرر إلا أتاه، فأتبعه على أمره ودعا له فعوفي، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه، فقال له: أفسدت عليّ أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلنّ بك. قال: لا تقدر على ذلك، قال: فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه، فيقع على الأرض ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه نجران، بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس. فلما غلبه، قال له عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى توحّد الله، فتؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت سلّطت عليّ فقتلتني. قال: فوحّد الله ذلك الملك، وشهد شهادة عبد الله بن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، وهلك الملك مكانه. فاجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم عليه الصلاة السلام من الإنجيل وحكمه، فسار إليهم ذو نواس ذرعة بن شنار بجنوده، فدعاهم إلى اليهودية وخيّرهم بين ذلك والقتل، فاختاروا القتل، فخذلهم، فحرق بالنار، و قتل بالسيف، ومثّل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا، وفيه نزل قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ اَلْأُخْدُودِ . والأخدود: الحفر الطويل في الأرض كالخندق، و الجمع أخاديد.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد عمرو بن حزام، أنه حدّث أن رجلا من أهل نجران في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حفر خربة من خرد نجران لبعض حاجة، فوجد عبد الله بن الثامر تحت الحفيرة التي دفن فيها قاعدا، واضعا يده على ضربة في رأسه، ممسكا عليها بيده، فإذا أخّرت يده عنها تنبعث دماء، وإذا أرسلت يده ردّه عليها فأمسكت دمها، في يده خاتم مكتوب فيه: ربي الله. فكتب به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبره بأمره، فكتب إليهم: إن أقرّوه على حاله، وردّوا عليه الدفن الذي كان عليه، ففعلوا.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!