الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


خلقه وشمائله وحالاته و حركاته وسكناته ومجالسه

كان صلى الله عليه وسلم فخما مفخما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأعظم من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعران، انفرقت عقيصته فرق، وإل خلا، ولا يجاوز شعره شحمة أذنه، إذ هو وفره، أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق، و لا بالأدم، سهل الخدين، صلتهما ليس بالطويل الوجه، ولا المكلثم، واسع الجبين، أزجّ الحواجب، سوابغ من غير قرن بينهما، عرق يدرّه الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله اسم، كثاء اللحية، أدعج، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مفلج

الأسنان، عنفقته بارزة، فكّاه حول العنفقة كأنها بياض اللؤلؤ، دقيق المرية، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، باديا متماسكا، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد المنكبين، جليل الكتدين، بين منكبيه خاتم النبوة وهو شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متواليات كأنها من عرف فرس، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبّة والسّرة بشعر يجري كخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، سبط العصب، شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف، خمصان الأخمصين، مسبح القدمين، ينبو عنهما الماء.

إذا أزل زال تقلعا، يخطو تكفأ، ويمشي هونا، ذريع المشية، كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة، يشوق أصحابه، يبدأ من لقي بالسلام، متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليس له راحة، لا ينطق في غير الحاجة، طويل السكت، يفتح الكلام ويختمه:

ببسم الله، ويتكلم بجوامع الكلم، فضل لا فضول فيه ولا تقصير، دمثا ليس بالجاحف ول المهين، يعظّم النّعم، وإن دقت لا يذم منها شيئا، ولا يذم مذاقا ولا يمدحه، و لا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، وإذا تعرض للحق لا يعرفه أحد، ولا يقوم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، وإذا أشار أشار بكفه كلها، و إذا تعجب قلبها كلها، وإذا تحدث اتصل بها، فيضرب ببطن راحته اليمنى إبهام اليسرى، و إذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضّ طرفه، جلّ ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حبّ الغمام، كان دخوله لنفسه ما دون له في ذلك.

كان إذ آوى إلى منزله جزّأ نفسه ثلاثة أجزاء: جزء لله تعالى، وجزء لأهله، وجزء لنفسه. ثم يجزّئ جزءه بينه وبين الناس، فيردّ ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدّخر عنهم شيئا، فكان في سيرته في جزء أهله الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه عليهم على قدر فضلهم في الدنيا، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم فيما أصلحهم، والأمة عن مسألة عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، و يقول: «ليبلّغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع بلاغي، فإن من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبّت الله قدمه يوم القيامة» . ولا يذكر عنده الأراذل، ولا يقبل من أحد غيره عذره، يدخلون زواد، ولا يفترون إلا عن ذواق، و يخرجون أذلة.

وكان صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم، ويؤلفهم ولا يفرقهم ول ينفرهم، ويكرم كريم

كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي على أحد بشره ول خلقه، يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عمّا في الناس، ويحسّن الحسن ويصوّبه، ويقبّح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا لكل حال عنده عياد، لا يقصّر عن الحق، ولا يجاوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، و أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.

وكان صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا بذكر الله تعالى، لا يوطن الأماكن، و ينهى عن إيطانها، وإذا جلس إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، يعطي كل جلسائه بنصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه ممن جالسه أو قاومه في حاجة صابرة، ما تفارقه حتى يده يكون هو المنصرف، ومن سأله في حاجة لم يردّه إل بها أو ما يسره من القول.

قد وسع الناس بينهم منه بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه حلم، وحياء وصبر، وأمانة، لا ترفع عنده الأصوات، ولا تؤبّن فيه الحرم، ول تثني فلتاته، معادلين متفاضلون فيه بالتقوى، متواضعون يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذوي الحاجة، ويحفظون الغريب.

وكان صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ، ولا غليظ، و لا صخّاب، ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مزّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا ييأس ول يخيب فيه مؤمّله، قد تزكى من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وتزكي الناس نفسه من ثلاث.

كان ل يذمّ أحدا، ولا يعيّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرتجى ثوابه، إذ تكلم أطرق جلساؤه كأن على رءوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده، إن تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوليتهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون، ويصبر على الغريب، على الجفوة، في مسألته ومنطقه، حتى إن كان أصحابه يستجلبون بهم، ويقول: «إذا رأيتم طالب حاجة فأرشدوه» ، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه.

وكان سكوته على أربع: الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكّر. فأما تقديره ففي تسويته النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكّره ففي ما يفنى ويبقى، وجمع له الحلم في الصبر، فكان لا يغضبه شيء، ولا يستفزّه. وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسن

ليقتدي به، وتركه القبيح لينتهي عنه، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته، والقيام فيما جمع له من خيري الدنيا والآخرة.

خدمه أنس بن مالك عشر سنين إلى أن توفاه الله تعالى، فما قال لشيء فعله، لم فعلته؟ ول لشيء لم يفعله، لم لم تفعله؟ ما عاب طعاما، كان إذا اشتهاه أكله، وإن لم يشتهيه تركه، كان يقول في السرّاء: «الحمد لله المنعم المتفضل» . وكان يقول في الضرّاء:

«الحمد لله على كل حال» .

كان يذكر الله على كل أحيانه. كان يسلّم على العبيد والإماء والصبيان.

كان يمازح الصغير، ويلاعب الوليد، ويمازح العجوز، ولا يقول إلا حقا.

كان رءوفا، رحيما، ليّنا، هيّنا، شفيقا، رفيقا، لطيفا، سئوسا.

كان صلى الله عليه وسلم أجلّ وأعظم من أن يحيط ناعت بوصفه، ولكن ما وصفه من وصفه إل بقدر ما ظهر له منه صلى الله عليه وسلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!