الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


خبر ذي الأكتاف كسرى مع ساطرون

روينا من حديث ابن هاشم، عن خلاّد قرّة بن خلاّد السدوسيّ، عن جنادة، قال:

كان كسرى سابور ذو الأكتاف، غزا ساطرون ملك الحضر حصن بشاطئ الفرات، فحصره سنتين، فأشرفت بنت ساطرون يوما، فنظرت إلى سابور، وعليه ثياب ديباج، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلّل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ، وكان جميلا، فدست إليه: أتتزوجني إن فتحت لك باب الحصن؟ قال: نعم. فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر، وكان لا يبيت إلا سكران، فأخذت مفاتيح باب الحصن من تحت رأسه، فبعثت بها مع مولى لها، ففتح الباب، فدخل سابور وقتل ساطرون واستباح الحصن وخرّبه، وسار بها معه فتزوجها، فبينما هي نائمة على فراشها ليلا، إذ جعلت تتململ لا تنام، فدعا لها بالشمع، ففتش فراشه فوجد عليه ورقة آس، فقال لها سابور: هذا الذي أسهرك؟ قالت: نعم. قال: ما

كان أبوك يصنع بك؟ قالت: كان يفرش لي الدّيباج، ويلبسني الحرير، و يطعمني المخّ، ويسقيني الخمر. قال: أفكان جزاء أبيك ما صنعت به أنت إليّ بذلك أسرع؟ ثم أمر بها فربطت قرون رأسها بذنب فرس، ثم ركض الفرس حتى قتلها. وفي ذلك يقول عديّ بن زيد:

والحصن صارت عليه داهية من فوقه أيّد مناكبها

مريبة لم تبق والدها لحينه إذا ضاع راقبه

إذا غبقته صهباء صافية والخمر وهل يهيم شاربها

وأسلمت أهله بليلتها تظنّ أنّ الرئيس خاطبه

فكان حظّ العروس إذ جشر الصبح دما يجري سباسبها

وخرب الحصن واستبيح وقد أحرق في خدرها مشاجبه

ومن قبله في الحضر موعظة، والحضر بلد عظيم بين الموصل والفرات ونهر الشرتار. و هي:

وتأمّل دبّ الخورنق إذا فك‍ ر يوما وللهدى تفكير

وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج‍ لة تجبى إليه والخابور

شاده مرمرا وجلّله كل‍ سا فللطّير في ذراه وكور

لم يهبه الزمان فباد ال‍ ملك عنه فبابه مهجور

ثمّ أضحوا كأنهم ورق جفّ فالقرب به الصّبا والدّبور

وقرأت على باب المدينة الزهراء التي صورتها فيه بعد خرابها، فهي اليوم مأوى الطير و الوحوش، وبناء بنيانها عجيب في بلاد الأندلس، قريب من قرطبة، أبياتا تذكر العاقل، وتنبّه الغافل، وهي:

ديار بأكناف المغيب تلمع وما إن بها من ساكن وهي بلقع

ينوح عليها الطير من كل جانب فيصمت أحيانا وحينا يرجّع

فخاطبت منها طائرا متفردا له شجن في القلب وهو مروّع

فقلت على ما ذا تنوح وتشتكي فقال على دهر مضى ليس يرجع

أخبرني بعض مشيخة قرطبة عن سبب بنيان المدينة الزهراء، فقال: إنّ عبد الرحمن أحد خلفاء بني أمية بقرطبة ماتت سرّيّة له، فتركت مالا كثيرا، فأمر الخليفة أن يفك بذلك المال أسرى من المسلمين، وطلب في بلد الإفرنج أسيرا فلم يجد، فشكر الله على ذلك، فقالت له الزهراء: اشتهيت لو بنيت لي مدينة سمّيتها باسمي، تكون خاصة لي، فبناه

تحت جبل العروس من قبلة الجبل وشمال قرطبة، وبينها وبين قرطبة اليوم قدر ثلاثة أميال أو دون ذلك، وأتقن بناءها وأحكمه، وأحكم الصنعة فيه. و قد ذكر تاريخها ابن حيّان، وجعلها منتزها ومسكنا للزهراء، وحاشية أرباب دولته، و نقش صورتها على الباب، فلمّا قعدت الزهراء في مجلسها على الجبل الأسود، علته فنظرت إلى بياض المدينة وحسنها في حجر ذلك الجبل الأسود، قالت: يا سيدي، ألا ترى إلى حسن هذه الجارية الحسناء في حجر هدا الزنجيّ؟ فأمر بزوال الجبل، فقال بعض جلسائه: أعيذ أمير المؤمنين من أن يخطر له ما يشين العقل بسماعه، لو اجتمع الخلق و عمر الدنيا معهم ما أزالوه حفرا ولا قطعا، ولا يزيله إلا من أنشأه، فأمر بقطع شجرة وغرسه تينا ولوزا، ولم يكن منظرا أحسن منها، ولا سيما في زمن الإزهار، و تفتّح الأشجار، وهي بين الجبل والسهل.

تذكرت أحبابي ورسم ديارهم فقلت:

درست ربوعهم وإنّ هواهم أبدا جديدا بالحشا لا يدرس

هذي طلولهم وهذي الأربع ولذكرها أبدا تذوب الأنفس

ناديت خلف ركابهم من حبهم يا من غناه الحسن ها أنا مفلس

مرّغت خدّي رقة وصبابة فبحقّ حق هواكم لا تؤيسوا

من ظلّ في عبراته عرقا وفي نار الأسى حرقا ولا متنفّس

يا موقد النار الرويدا هذه نار الصّبابة شأنكم فلتقبسو

ولنا من اللّطائف العرفانية في الإشارات:

ألا ي ترى نجد تباركت من نجد سقتك سحاب المزن جودا على جود

وحيّاك من حيّاك خمسين حجّة بعود على بدء وبدء على عود

قطعت إليها كلّ قفر ومهمه على الناقة الكوماء والجمل العود

إلى أن تراءى البرق من جانب الغضا وقد زادني مسراه وجدا على وجد

أردت ترى نجد، مركّب العقل وسحاب المعارف، تسقيه علما على علم، وخمسين حجة عمر الركب في هذا الوقت، والتحية سلام الحق مرددا بلطائف التحف، والإشارة بإلبه للحضرة والقفر، والمهمه الرياضة النفسية والمجاهدة البدنية، والناقة الكوماء الشريعة، والجمل العود العقل المجرّد والبرق المطلوب، والغضى الإشراق النوراني الذي لحجاب العزة الأحمى، ومسراه لمعانه من جانب الكون، فإن السر لا يكون إل ليلا، والكون الليل.

حدثن محمد بن قاسم، ثنا أبو الطاهر أحمد بن الحسن، عن أبيه محمد بن الحسن،

عن السادكوي، عن النعمان بن عبد السلام، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا الدنيا، فنعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر، إذ قال العبد: لعن الله الدنيا، قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربه» .


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!