الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


خبر الكنيسة التي بناه أبرهة بصنعاء إلى جنب غمدان

روينا من حديث ابن إسحاق، أن أبرهة الأشرم، لما كان من أمره ما كان مع أرباط وقتله، وملك اليمن، وأقره النجاشي على اليمن، بنى كنيسة بصنعاء إلى جنب غمدان، وسماه القليس، وحرق غمدان هو وأرباط، وكتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك بصنعاء بيت لم تبن العرب والعجم مثله، ولن أنتهي حتى أصرف حاجّ العرب إليه، ويتركوا الحج إلى بيتهم، فبنى القليس بحجارة قصر بلقيس التي عمرته صاحبة الصرح المذكور في القرآن، وكان سليمان في رواية من قال: إنه تزوج بها، فكان إذا جاءها ينزل عليه فيه.

قال ابن إسحاق: فوضع أبرهة الرجال نسقا يناول بعضهم بعضا الحجارة والآلة، حتى نقل ما كان في قصر بلقيس مما احتاج من الحجارة والرخام والآلة، وجدّ في بنائه، وبناه مربعا، مستوي التربيع، طوله في السماء ستون ذراعا، وكبسه من داخله في السماء عشرة أذرع، وكان يصعد إليه بدرج الرخام، وبنى حوله سورا بينه وبين القليس مائتا ذراع مطيف به من كل جانب، وبنى ذلك كله بحجارة يسموها أهل اليمن الجورب، منقوشة مطابقة لا تدخل بين أطباقها الإبرة مطيفة به، وجعل طول ما بنى به من الجورب عشرين ذراع في

السماء، ثم فصل ما بين حجارة الجوارب بحجارة مثلثة تشبه الشرف متداخلة بعضها ببعض، حجر أخضر، وحجر أسود، وحجر أحمر، وحجر أبيض، وحجر أصفر، فيما بين كل ساقين خشب ساسم مدوّر الرأس، غلظ الخشبة حضن الرجل، ثابتة على البناء، وكان مفصلا بهذ البناء على هذه الصفة، ثم فصل بإفريز من رخام منقوش، طوله في السماء ذراعان، وكان الرخام ثابتا على البناء ذراعا، ثم فصل فوق الرخام بحجارة سود لها بريق، ثم وضع فوقها حجارة بيضا لها بريق، فكان هذا ظاهر حائط القليس، وكان عرض حائط القليس ستة أذرع، وكان له باب من نحاس عشرة أذرع طولا في أربعة أذرع عرضا، وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه طوله ثمانون ذراعا في أربعين ذراعا، معلق العمل بالساج المنقوش، و مساميره الفضة والذهب، ثم يدخل من البيت إلى إيوان طوله أربعون ذراعا، عن يمينه و عن يساره عقد مضروبة بالفسيفساء مشجرة، بينهما كواكب الذهب ظاهرة، ثم يدخل من الإيوان إلى قبة ثلاثون ذراعا في مثلها بالقصير، فيها صلب منقوشة بالذهب والفضة، و فيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من اليلق مربعة عشرة أذرع في مثلها، تغشي عين من نظر إليها من بطن القبة، يؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة، وكانت تحت الرخامة منبر من خشب اللبخ وهو الآبنوس مفصّل بالعاج الأبيض، ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهبا وفضة، وفي القبة سلاسل فضة، وكان في القبة وفي البيت خشبة من ساج منقوشة طولها ستون ذراعا يقال لها كعيب، وخشبة من ساج نحوها في الطول يقال لها امرأة كعيب، كانوا يتبركون بها في الجاهلية، وكان يقال الكعيب الأحوريّ، وهو في لسانهم الحرّ، وكان أبرهة عند بناء القليس قد أخذ العمال بالعمل أخذا شديدا، و قد كان آلى أن لا تطلع الشمس على عامل لم يضع يده في العمل إلا قطع يده.

قال: فتخلّف رجل ممن كان يعمل فيه حتى طلعت الشمس، وكانت له أم عجوز، فذهب بها معه لتستوهبه من أبرهة، فأتته به وهو بارز للناس، فذكرت له علّة ابنها واستوهبته منه، فقال: لا أكذّب نفسي، ولا أفسد على عمالي، فأمر بقطع يده، فقالت له:

اضرب بمعولك ساعي بهر اليوم لك وغدا لغيرك ليس كل الدهر لك

فقال: ادنوها، وقال لها: إن الملك ليكون لغيري؟ قالت: نعم. وكان أبرهة قد أجمع أن يبنى القليس حتى يظهر على ظهره، فيرى منه بحر عدن، فقال: لا أبني حجرا على حجر بعد يومي هذا، فأعفي الناس من العمل.

قال أبو الوليد: تفسير قولها: ساعي بهر، تقول: اضرب بمعولك ما كان حديدا.

قال ابن إسحاق: وانتشر خبر بناء هذا البيت في العرب، وسمع به رجل من النّسأة

أحد بني فقيم، ثم بني مالك بن كنانة، فغضب وخرج حتى أتى القليس فدخله، فأحدث فيه، فبلغ ذلك أبرهة، فغضب وقال: لا أنتهي حتى أهدم بيت العرب الذي يحجّون إليه، يعني الكعبة، فتجهّز، وساق الفيل إلى البيت الحرام ليهدمه، فكان من شأنه ما ذكرناه في هذا الكتاب.

قال ابن إسحاق: ولم يزل القليس على ما كان عليه حتى ولّي أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور العباس بن الربيع بن عبيد الله الحارثي اليمن، فذكر للعباس ما في القليس من الذهب و الفضة، وعظم ذلك عنده، وقيل له: إنك مصيب فيه مالا كثيرا وكنزا، فتاقت نفسه إلى هدمه وأخذ ما فيه، فبعث إلى ابن وهب بن منبّه فاستشاره في هدمه وقال: غير أن واحدا من أهل اليمن قد أشار عليّ أن لا أهدمه، وعظم إليّ أمر كعيب، وذكر أن أهل الجاهلية كانوا يتبركون به، وأنه كان يكلمهم ويخبرهم بأشياء مما يحبون ويكرهون.

قال ابن وهب: كل ما بلغك، وإنما كعيب صنم من أصنام الجاهلية، فتنوا به، فمر بالذهل وهو الطبل، وبمزمار، فليكونا قرينا، ثم أعله الهدّامين، ثم مرهم بالهدم، فإن الذهل و المزمار أنشط لهم وأطيب لنفوسهم، وأنت مصيب مالا، مع أنك تأخذ بثأر من الفسقة الذين حرقوا غمدان، وتكون قد محوت عن قومك اسم بناء الحبش، وقطعت ذكرهم.

وكان يهودي بصنعاء عالما، فجاء قبل ذلك إلى العباس بن الربيع يتقرب إليه، فقال له: إن يهدم القليس يلي اليمن أربعين سنة، فلما اجتمع له مشورة ابن وهب، وقول اليهودي، أجمع على هدمه، فقال من شهد هدمه: أصاب منه العباس مالا عظيما، ثم رأيته دع بالسلاسل فعلّقها في كعيب، والخشبة التي معه، فاحتملها الرجال فلم يقربها أحد مخافة مما كان أهل اليمن يقولون فيها، فدعا بالوردين وهو العجل، وعلّق فيه السلاسل، ثم جذبها الثيران حتى أبرزها من السور. فلما لم ير الناس شيئا مما كانو يخافون من مضرّاتها، اشترى رجل عراقي الخشبة، وقطعها لدار له، واتفق أن العراقي تجذّم فقال: من كان في قلبه تعظيم الخشبة من جهّالهم، إنما أصابه ما أصابه من أجل شرائه كعيبا، وكان الناس إذا فتشوا في هدم القليس وجدوا قطع الذهب والفضة، وهذ ما كان من هدم القليس.

ومن الإلحاد في الحرم المكي، ما حدثنا به محمد بن إسماعيل، ثنا عبد الرحمن، ثنا أحمد بن علي، ثنا أبو بكر الخطيب، انا ابن بشيران، ثنا ابن صفوان، ثنا عبد الله بن محمد القرشي، ثنا إبراهيم بن سعيد، ثنا أبو سامة مسعر، عن علقمة بن مرشد، قال:

بينم رجل يطوف بالبيت إذ برق له ساعد امرأة فوضع ساعده على ساعدها يتلذّذ به، فلصقت ساعداهما، فخرجا من الحرم ملتصقين حياء لما حلّ بهما، فقال لهما بعض العلماء:

ارجع إلى الموضع الذي أصابكما هذا فيه، فتوبا إلى الله، واعزما أن لا تعودا، فرجع فعاهدا الله، فخلّى عنهما.

ومن باب تعجيل العقوبة، ما كان يحدثنا به عبد الله بن العاص الباجي المالكي في مناقب مالك و فضله في العلم، أن امرأة غسلت امرأة ماتت، فلما غسلت فرجها ضربت الغاسلة بيده على فرج الميتة، وقالت: ما كان أزناك من فرج، فلصقت يدها بالفرج، فسئل علماء المدينة في ذلك، ومالك صغير طالب للعلم، فاختلف علماء المدينة بين تغليب حرمة الميت على الحي، وحرمة الحي على الميت، فمن قائل تقطع يدها، ومن قائل يقطع الفرج، ومالك حاضر، فقال: أرى إن سمعتم أن تجلد حدّ القذف، فإنه يخلى عنها، قال: فجلدت ثمانين جلدة، فانطلقت يدها، فمن هنالك علم فضل مالك في العلم.

روينا من حديث ابن باكويه، عن أبي الفضل القطان، عن جعفر الخلدي قال:

سمعت الجنيد يقول: حججت على الوحدة فجاورت بمكة، فكنت إذا جن الليل دخلت أطوف فإذ بجارية تطوف وهي تقول:

أبى الحبّ أن يخفى وكم قد كتمته فأصبح عندي قد أناخ وطنّبا

إذا اشتدّ شوقي هام قلبي بذكره وإن رمت قربا من حبيبي تقرّب

ويبدو فأفتى ثم أحيا بذكره ويسعدني حتى ألذّ وأطربا

قال: فقلت لها: يا جارية، أما تتقين الله في هذا المكان؟ تتكلمين بهذا الكلام، فالتفتت إليّ وقالت: يا جنيد:

لو ل التقى لم ترني أهجر طيب الوسن

إن التقى شرّدني كما ترى عن وطني

أفرّ من وجدي به فحبّه هيّمني

ثم قالت: يا جنيد، تطوف بالبيت أم برب البيت؟ قلت: أطوف بالبيت، فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: سبحانك ما أعظم شأنك في خلقك، خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار، ثم أنشأت تقول:

يطوفون بالأحجار يبغون قربه إليك وهم أقسى قلوبا من الصخر

وتاهوا ولم يدروا من النيّة من هم وحلّوا محل القرب في باطن الفكر

فلو صدقوا في الودّ غابت صفاتهم وقامت صفات الودّ للحق في الذكر

قال الجنيد: فغشي عليّ من قولها، فلما أفقت لم أرها. قلت: كنت ليلة في الطواف، فطلبت قلبي فلم أجده، فهدت أن أجده، فصعب عليّ الطواف بجسمي بقلب غير حاضر، وداخلني خوف، فنزلت أطوف في الرمل وحدي، وأقول وأبكي:

جسم يطوف و قلب ليس بالطائف ذات تصدو ذات ما لها صارف

هيهات هيهات ما اسم الزور يعجبني قلبي له من خفايا فكره خائف

ثم وجدت لمحة برقت، فدنوت من البيت وأنا أقول: أطوف على طوافي بالمعاني.

فهتف لي هاتف خلف الستر فقال:

فغايتك الوصول إلى الغواني. فقلت: فكم من طائف ما نال إلا؟ فقال: ملاحظة من الجور الحسان. فقلت: فكم من طائف ما نال إلا؟ فقال: عيانا في عيان من عيان. فقلت: فأنبئني بحظي منه وأصدق.

فقال: كيانا في كيان من كيان، فقلت:

فقد أودعته التوحيد عقدا وكان يمينه بدل الجنان

فقال:

وربّ الراقصات بقاع سلع وربّ مثالث تتلو المثاني

لقد عاينته كالسلك فيه فابشر بالقبول وبالأماني

ولأبي عبد الله أحمد بن محمد بن أحمد الشيرازي:

إليك قصدي لا للبيت والأثر ولا طوافي بأركان ولا حجر

صفاء دمعي الصّفا لي حين عبره وزمزمي دمعة تجري من النظر

وفيك سعيي وتعميري ومزدلفي والهدي جسمي الذي يغني عن الجزر

عرفانه عرفاني إذ منى منن ووقفتي وقفة في الخوف والحذر

وجمر قلبي جمار تبدها شرري والحرم تحريمي الدنيا عن الفكر

ومسجد الخيف خوفي من تباعدكم ومشعري ومقامي دونكم خطري

زادي رجائي له والشوق راحلتي والماء من عبراتي والهوى سفري


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!